اعتبر بعض وسائل الاعلام خطاب وزير الخارجية البريطاني روبن كوك الذي ألقاه في المؤتمر السنوي للحزب الحاكم، بداية حملة بريطانية لكسب العالم الإسلامي، لأنه تبنى فيه موقفاً ايجابياً تجاه المسلمين والعالم الإسلامي، رافضاً مقولة صدام الحضارات، بينما تلقاه العالم الإسلامي من دون حماسة. وأعاد البعض هذا البرود إلى سجل طويل من علاقات المد والجزر بين العالم الإسلامي والغرب. لا سيما مع بريطانيا التي كانت سيطرتها، في يوم من الأيام، على معظم بلدان المسلمين مثقلة بالجروح النازفة التي لا يزال بعض ندوبها بارزاً، وفلسطين أكبر شاهد. ويرى هؤلاء ان أعداد المسلمين المتزايدة داخل العالم الإسلامي. وتنامي أعداد ومواقع الجالية الإسلامية في أوروبا الغربية. والتنافس الحاد بين الكتل الاقتصادية الغربية داخل أوروبا على مصادر الطاقة والمواد الأولية والأسواق الاستهلاكية. كلها عناصر مشجعة دفعت وزير الخارجية البريطاني لإعلان موقفه الايجابي وقوله "إن الغرب ليس بوسعه النظر إلى الاسلام والمسلمين إلا كأصدقاء". وهذا يعني - في رأيهم - ان الوزير البريطاني يبحث عن مصلحة بلاده، لا عن صداقة المسلمين. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن: هل ينبغي علينا البحث عن كيفية توظيف مثل هذه المواقف الغربية الايجابية باتجاه كل معاني الخير التي نتمنى تحقيقها، أم ينبغي ان نتشبث بالبحث عن صدقية القول نفسه؟ وقضايا الصدقية والأهداف والنيات أمور خفية متعددة الثغرات يصعب الحكم عليها، وقواعد الإسلام نفسه تطالبنا بالتعامل مع الوقائع والحقائق وظاهر الأمور وترك السرائر للذي يعلم السر وأخفى. وهل كان عالم الأمس، الذي نهضت فيه الدعوة الإسلامية، بعيداً عن مفاهيم المصالح؟ سواء في المرحلة المكية أو في المرحلة المدنية. وفي ما بعد في العلاقة بين الدولة العباسية والبيزنطية، والأندلسية والقوطية؟ وهل من نموذج أوضح من نصيب "المؤلفة قلوبهم" في الزكاة، وصدق انتمائهم للإسلام - على الأغلب - موضع شك لا موضع يقين، إلا فعلي أي شيء تؤتلف قلوبهم؟ والحديث عن بريطانيا المعاصرة يعني الحديث عن دور أوروبي صاعد ترى فيه القوى الفاعلة على الساحة الدولية نداً حقيقياً. والغرب في زحمة البحث عن مصادر النفوذ السياسي، والقوة الاقتصادية، والرفاه الاجتماعي، يتنافس على مصادر الطاقة الخبيئة داخل الأراضي البكر في القارة الافريقية والآسيوية. حتى استقرت قناعة السياسيين في تعليقهم على ما يدور من صراع في مناطق التوتر، كدول القرن الافريقي وشبه القارة الهندية وأطرافها، بأنه صراع شركات عملاقة، في حين ان التوصيف الشائع لها أنها حروب داخلية وخارجية. والحديث عن المصالح ذو شجون باعتبار اننا نسينا خلال القرن الأخير - إلا في ومضات خاطفة - كيف نستثمر مصالحنا عند الآخرين، ونوظف مصالح الآخرين لدينا. وتركت فترة الاستعمار بصماتها على معادلاتنا المقلوبة في الخضوع التام لما يراد بنا لا لما نريده. وصار الرفض في كثير من الأحيان رفضاً ينطلق من زاوية الجهل والخوف والتردد، غير مرتبط بمخطط عام يساهم في دفع عجلات عربتنا إلى الأمام. إن ما يخيف ليس وجود المصلحة وراء الطرح السياسي، المخيف هو عدم معرفتنا بسبل توجيه المصلحة واتجاهاتها وتنميتها لخدمة أهدافنا الاستراتيجية. ولقد دخل النبي ص في جوار المطعم بن عدي في مكة عقب عودته من الطائف بعد رحلة شاقة ومواجهة ساخنة من ثقيف، مع أن المطعم لم يكن مسلماً. غير أن مواقفه كانت متميزة عن مواقف غيره من رجالات قريش. وكان لشرف جوار الرسول ص أهداف أبعد مرمى من طلب الجوار نفسه. فمثل هذه الخطوة تعني استمالة المطعم وجماعته، وفي هذا وحده مصلحة راجحة للدعوة الجديدة وجماعتها الأولى. و"جلب المصالح مقدم على درء المفاسد". في أجواء الاحتقان الاعلامي والدعائي الكبير الموجه لجماعات العمل السياسي الإسلامي، وأمام الاستعلاء الإسرائيلي الذي نجح - حتى الآن - في توظيف كل الثغرات والتناقضات العربية، ليحقق مزيداً من القوة والتأثير والامتداد على حساب مصالح العرب السياسية والاقتصادية والأمنية. وأمام أطروحات تتحدث عن العدو البديل للاتحاد السوفياتي المفكك، وعن صراع الحضارات المتوقعة في كتابات بعض المفكرين الغربيين كالأميركي صموئيل هنتنغتون الذي يرى "حتمية الصراع بين الحضارتين الإسلامية والغربية"، لا بد للعقلاء في صفوفنا ان يبحثوا عن تعريف ورؤية عصرية للمصالح المشتركة التي تحقق في الوقت نفسه مصالح الإسلام والمسلمين في عالم سريع الحركة والتغير. والهوة الثقافية والفكرية فيه تتسع بين الشمال والجنوب، وبين الشرق والغرب. وتوجهنا الرئيسي في هذه المسألة إلى المسلمين المؤمنين بأهلية الإسلام للانفتاح على الغير، وقدرته على المساهمة في بناء صرح الحضارة الإنسانية. والمؤمنين بالتوازن في الحياة بين الالتزام الديني والعمل الدنيوي. وبالتوازن في الطرح الإسلامي بين المفاصلة والانفتاح على الغير وبالتوازن في العلاقات الصحيحة السليمة التامة الناجزة داخل حدود الدولة الاقليمية وضمن منظومة الأمة الإسلامية والمجتمع الإنساني. أعني هؤلاء الذين تحرروا من عقدة الخوف الذي يدفع بالفرد والجماعة إلى زوايا التردد وتضييع الفرص. والذين يؤمنون بأن علاج أدواء الأمة الإسلامية المعاصرة التي تفتك بجسدها، وتتركها نهبة لبعض المراهقين الذين يتحركون على الساحة بعقلية الوصاية على كل ما يمت إلى الإسلام، يكمن في وعي صحيح والتزام صادق وانفتاح مدروس. ويبقى على الأمة بكل طاقاتها العلمية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية ان تتخذ مواقف ايجابية تتمثل في تحقيق كرامة الإنسان داخل وطنه، وبناء جسور من التفاهم مع العالم الخارجي، على أن تراعي في كلا الأمرين تحقيق المصالح بعيداً عن الافراط والتفريط. * كاتب لبناني.