تشهد المغرب في الوقت الراهن تطوراً نوعياً كبيراً في صناعة الكتاب وذلك بفضل التدخل الكثيف لتقنيات الطباعة الرفيعة في مجال النشر مما اصبح يتيح تحقيق منتوج طباعي في غاية الجودة والاتقان. وانطلاقاً من المعطيات القليلة المتوافرة فان عدد دور النشر في المغرب قد انتقل من خمس الى حوالي خمسين داراً بين السنوات السبعين وأيامنا هذه، وعرف عدد العناوين، وكذلك قيمتها الفكرية والأدبية، تحسناً لافتاً للانتباه وذلك في تساوق مع اتساع قاعدة القراء وانتشار عادات القراءة لدى عدد متزايد من القطاعات المستهدفة. ويتمتع المغرب اليوم بسوق للكتاب تشكل أساساً من سلسلة واسعة من المكتبات ومراكز البيع موزّعة عبر المدن الكبرى، كما يتوفر على معرض دولي للكتاب يقام في الدار البيضاء مرة كل سنتين، وهو في هذا العام في دورته السابعة. ويهدف هذا المعرض، كما تعلن عن ذلك لوائحه، الى تنويع طرائق نشر الكتاب وإطلاع القارىء المغربي على مستجدات المطابع الوطنية والعربية والدولية، وإتاحة الفرصة لتدارس قضايا القراءة والنشر في البلاد، وتسهيل الاتصال بين عموم المشتغلين في صناعة الكتاب من ناشرين وموزّعين ومؤلفين. على ان الموضوعية تدعونا الى القول بان هذه الرؤية المتفائلة بعض الشيء لا تعكس الوضع الحقيقي لقطاع النشر في المغرب، ولا تصمد أمام التحولات المباغتة وغير السارة دائماً التي تتعاقب عليه. ومن جملة الأشياء ان دور النشر التي تستحق حمل هذا الاسم لا تتجاوز في الواقع أصابع اليد اذا اخذنا في الاعتبار وتيرتها في الانتاج وانتظامها في الصدور، والعناوين التي تخرجها اكثر هذه الدور نشاطاً تبقى في غاية التواضع كمّاً وكيفاً، فخلال العقد الاخير مثلاً قليلة هي دور النشر المغربية التي تعدت سقف المائة عنوان دون اعتبار لعنصر الجودة والقيمة... واذا كان من المؤكد ان التكلفة المرتفعة لصناعة الكتاب وتوزيعه، فضلاً عن تدهور القدرة الشرائية لجمهور القراء، المشكل في غالبه من الطلاب والموظفين محدودي الدخل، هي التي تقع في أساس العوامل المعرقلة لمسار قطاع النشر في المغرب فانه لا ينبغي ان تعرب عن أذهاننا مجموعة من التناقضات والمفارقات التي تستنزف هذا القطاع وتحول دون تحسنه واطراد نموه المفترض، وعلى رأسها: 1- واقع ان المغرب، رغم التمدرس الظاهر والنسبي لساكنته، واهمية بنياته الجامعية، ووفرة المؤلفين والباحثين المشهود لهم بالتفوق... فانه يظل مجتمعاً لا يقرأ بما فيه الكفاية، وذلك بسبب عدم رسوخ تقاليد القراءة في أوساطه، وتراجع البرامج التعليمية والتربوية التي تحت على الانفتاح على عالم القراءة. والنتيجة المنظورة لهذا الواقع هي الحصيلة الضعيفة لما ينشر ويوزع. ففي أحسن الاحوال يطبع معدل ثلاثة آلاف نسخة من العنوان الواحد لفائدة مجتمع مكوّن من حوالي ثلاثين مليوناً من السكان قرابة النصف فيه يعاني من الأمية... 2 - توفر المغرب على بنية تحتية جد متطورة، موضوعة رهن اشارة صانعي الكتاب، حيث المعالجة والتصفيف الضوئي والسحب يتم بطريقة الكترونية، ولكن بتكلفة انتاج باهظة يزيد من استفحالها غياب الدعم المالي للدولة التي تعودت على التعامل مع الكتاب باعتباره مادة استهلاكية عادية، باستثناء حالة الكتاب المدرسي المدعوم من طرف وزارة التربية الوطنية. ويترتب عن هذا الوضع ارتفاع ثمن البيع العمومي للكتاب الشيء الذي يشجع على اقتنائه من طرف القراء المحتملين ويحوله من جراء ذلك الى مادة كمالية. 3 - وجود شركة توزيع كبرى تأسست سنة 1943 وجرت مغرَبَتها سنة 1973 ولكنها تبقى بحاجة الى تنظيم محكم يمكنها من تغطية مجموع التراب الوطني. يضاف الى ذلك الارتفاع الهائل لكلفة التوزيع حوالي 50 في المئة من سعر البيع، بينما لا تتجاوز حقوق المؤلف الا نادراً سقف 10 في المئة. وكل هذه العوامل تحدّ من مردودية الكتاب وتدفع بالناشرين الى الانخراط في عمليات توزيع فردية غير مدروسة لمنتوجاتهم في محاولة لضمان هامش ربح معقول. 4 - تطور مشهود في وسائل الاعلام والاتصال، ولكنه لا يُترجم الى برامج إعلامية وثقافية منتظمة تخدم التعريف بالكتاب والاعلان عن جديد دور النشر وبالتالي الإسهام في توسيع قاعدة القراء الاساسية. انطلاقاً من هذا التشخيص السريع لوضعية النشر بالمغرب، يمكننا ان نفهم اليوم نوعية وطبيعة النقاش الدائر بين مختلف الفاعلين العموميين في الميدان، من ناشرين وباحثين ومؤلفين، والذي تبدو الغاية من ورائه هي البحث عن السبل والوسائل الكفيلة بتحقيق إقلاع لجديد ومأمون لميدان النشر بالمغرب. واذا ما نحن انصتنا الى أولئك وهؤلاء، أمكننا ان نمسك بالاقتراحات والافكار التي تصدر عن كل المعنيين بشأن الكتاب والنشر بالمغرب: أ- ضرورة تدخل الدولة على مستوى النشر الثقافي، بتبسيط المسطرات المتعلقة بإنتاج وتسويق وتصدير الكتاب عن طريق وضع نصوص قانونية تعتبر الكتاب موضوع استثمار من دون ان تلغي بعده الثقافي. ب - حثّ دور النشر على لعب الدور الثقافي المنشود وجعل الثقافة والابداع مكوناً من مكونات بنية سوق الكتاب، بما يعني إشاعة قيم تداولية تتجه الى التحسيس والتوعية بأهمية الكتاب باعتباره منتوجاً ثقافياً في المقام الاول. ج - دعوة الموزعين الى استعمال كل الوسائل التقنية الحديثة التي تهدف الى التعرف على تحولات سوق القراءة، والتوزيع العقلاني لنقط البيع خاصة في المناطق النائية، وضمان حضور نشيط في المعارض الدولية للكتاب... د - تحفيز المنعشين الثقافيين، من صحافيين ونقاد وباقي عناصر المجتمع المدني، على تفعيل دور وسائل الاعلام في التعريف بالكتاب لتحسين شروط سوق القراءة وتعبئة القطاعات القارئة. واخيراً، اذا كنا نتّفق على ان العلاقة بين الناشر والمؤلف، في كل الازمنة والأمكنة، كانت دائماً تقوم على التوتر والشبهة، فانه ينبغي ان نضيف في حالة المغرب بان هذه العلاقة تتميز على الخصوص بغياب المصداقية والشفافية، فأمام المؤلف الذي يشكو من عدم إطلاعه على الحسابات المتصلة بالكميات المسحوبة والمباعة من كتبه، هناك الناشر الذي يجد صعوبة في اقناع المؤلف بواقع مشكلات النشر ومعوقاته انخفاض القدرة الشرائية، غلاء سعر الورق، ارتفاع تكلفة التوزيع، كثرة المرجوعات والضرائب... الخ. كما ان هذه العلاقة الصعبة بين الاثنين لا يلطفها انعدام مؤسسات التراضي وغياب البنيات التعاونية والنقابية المنظمة للمهنة. ومع كل ذلك، فالموضوعية نفسها تدعونا الى الاعتراف بان أزمة النشر في المغرب هي دليل على الوضع الصحي الذي يرفل فيه هذا القطاع ضداً على حالة الجمود ومراوحة المكان، فضلاً عن ان الأزمة المفترضة إياها قد بدأت في الآونة الاخيرة تشهد نوعاً من الانفراج بفضل التحولات الايجابية التي يعيشها عموم المشهد السياسي المغربي، خاصة من جهة النيات المعلنة حتى الآن بجعل قطاع النشر العمومي يحظى بالأولوية في المخططات والبرامج الحكومية، والرغبة في البحث عن تيسير سبل أنتاج كتاب وطني جدير باغناء الثقافة المغربية والاغتناء بها.