إذا سارت الأمور وفق الجدول الزمني الذي اتفق عليه كلينتون - نتانياهو وعرفات في لقاءاتهم الثنائية والثلاثية التي عقدوها في البيت الأبيض أواخر أيلول سبتمبر الماضي، فسيشهد شهر تشرين الأول اكتوبر الجاري تحركات أميركية جديدة مكثفة لانقاذ بقايا عملية السلام، واخراج المفاوضات الفلسطينية - الاسرائيلية من حال الجمود التي تعيشها منذ أكثر عامين. وجاءت وزيرة الخارجية الأميركية مادلين اولبرايت ومنسق عملية السلام دنيس روس الى المنطقة لمتابعة الجهود. وإذا لم يغير نتانياهو موقفه فسيعود هو وعرفات الى واشنطن خلال هذا الشهر ومعهما وفداهما. فهل حان الوقت للتوصل الى اتفاق فلسطيني - اسرائيلي جديد طال انتظاره؟ وهل مهدت لقاءات واشنطن الشهر الماضي الطريق أمام روس وأولبرايت للنجاح في تهيئة الأجواء اللازمة لضمان نجاح القمة الجديدة؟ أم أن الطريق لا يزال طويلاً، وانعقاد قمة جديدة أمراً غير محسوم، ونيات نتانياهو غير صادقة وأوضاعه الداخلية غير مهيئة ما يعني انه يمكن أن يتراجع عن مواقفه وأقواله؟ لا شك في أن جهود الإدارة الأميركية الشهر الماضي كانت في سباق مع الزمن، بهدف تعطيل التوجهات الفلسطينية الى الاعلان من جانب واحد، في 4 أيار مايو 1999، قيام الدولة الفلسطينية على الأرض التي احتلت عام 1967، وبسط سيادتها عليها إذا لم يتم التوصل لاتفاق. وان تصريحات رئيس السلطة الفلسطينية الرسمية حول الموضوع دفعت نتانياهو للتحرك باتجاه البيت الأبيض، طالباً من أركانه ثني عرفات عن المضي قدماً في الموضوع، وعدم طرحه على جدول أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، باعتبار ذلك تهديداً لأمن اسرائيل. ويمكن القول أن لقاءات واشنطنونيويورك كانت عسيرة لامست القضايا الجوهرية دون حلها، ولم تسفر عن نتائج عملية ملموسة. لقد حاول الرئيس كلينتون وأركان الخارجية والبيت الأبيض، انتزاع موافقة اسرائيلية رسمية علنية على مبادرتهم ولم ينجحوا. وحاولوا اغلاق ملفات المرحلة الثانية في إعادة الانتشار، وقضايا المطار، والمنطقة الصناعية في غزة، والتفاهم الأمني، ليتسنى الانتقال لبحث القضايا الأخرى في المفاوضات والاتصالات المقبلة. ومارسوا ضغوطهم على الطرف الفلسطيني بدلاً من ممارستها على نتانياهو. ونجحوا في انتزاع عدم تحديد الوفد الرابع من أيار 1999 موعداً رسمياً للاعلان عن قيام الدولة على الأراضي الفلسطينية التي احتلت عام 1967 وبسط سيادتها عليها. ووافق الجانب الفلسطيني على الاقتراح الأميركي الداعي الى تحويل 3 في المئة من أراضي الضفة الغربية، من أصل 13 في المئة المفترض انسحاب اسرائيل منها الى محمية طبيعية يتقاسم الطرفان إدارة شؤونها الأمنية والمدنية. لم تنجح جهود الإدارة الأميركية المكثفة ومعها التنازلات الفلسطينية الجديدة، ولم يغير نتانياهو موقفه. ورفض اغلاق ملفات المرحلة الثانية من إعادة الانتشار وتشغيل المطار والمنطقة الصناعية في غزة، واشترط قبول السلطة بشروطه المتعلقة بالأمن وهو ما رفضه الجانب الفلسطيني وبقي متمسكاً بذريعة التبادلية. وصمت كلينتون وأركانه، ولم يمارسوا عليه ضغوطاً جدية لإرغامه الاستجابة لرغباتهما. وأقصى ما استطاعوا انتزاعه هو تأجيل اتخاذ أي من الطرفين مواقف نهائية تنسف المفاوضات. وتم الاتفاق على نقطتين فقط: الأولى وضع جدول زمني تفصيلي للتحرك الأميركي اللاحق، والثانية تحديد القضايا التي سيتم تناولها في المفاوضات اللاحقة، الثنائية والثلاثية، التي ستجري في المنطقة وفي واشنطن هذا الشهر. وأكد الرئيس كلينتون لرئيس اللجنة التنفيذية إلتزام الادارة الأميركية بمبادرتها، وعزمه مواصلة المساعي والجهود لأجل التوصل الى اتفاق في اللقاءات اللاحقة. ونجح كل من عرفات ونتانياهو في تسجيل هدف سلبي في مرمى الآخر. الأول شد الأنظار للمسألة الفلسطينية وحشد الجمهور باتجاه ملعبها. وفرضها كقضية لها أولوية في العلاج على سواها من القضايا الدولية المثارة على جدول أعمال الأممالمتحدة والدول الكبرى "افغانستان - البلقان"، وفرض حركة دولية نشطة لمعالجتها. وكسب مزيد من التعاطف والتضامن المعنوي الرسمي الأميركي. وحصل على وعد من الرئيس الأميركي بتفعيل اللجنة الأميركية - الفلسطينية المشتركة، ودراسة مسألة رفع مستوى التمثيل الفلسطيني في واشنطن، ولم يغلق نهائياً عرفات الطريق أمام خياراته الأخرى. وتمسك بالرؤية الفلسطينية التفصيلية لمسألة التبادلية والندية في المسائل الأمنية وقدم الوفد مذكرة تتضمن ست نقاط. وأبقى الصراع مع نتانياهو واقفاً على حافة الانفجار. اما الثاني "نتانياهو" فقد عطل طرح فكرة اعلان الدولة على الجمعية العامة للأمم المتحدة، وتحديد الرابع من أيار موعداً رسمياً لبدء ممارستها سيادتها على الأرض، وفرَّغ الجهود الفلسطينية لاستقطاب الرأي العام حولها. وفرض أسس وصيغ التحرك الديبلوماسي الجديد وجدول أعماله. ولم يقدم التزامات ملموسة، باعتماد المبادرة الأميركية كقاعدة للمفاوضات اللاحقة. ورفض عرض خرائط المناطق التي سيشملها الانسحاب وإعادة الانتشار الأولى والثانية. ونجح في ابقاء كل القضايا المختلف حولها معلقة وأهمها: استحقاق الانسحاب الأول والثاني وجدوله الزمني، مصير المرحلة الثالثة التي استحقت، الجدول الزمني لتطبيق بنود المبادرة الأميركية، وقف الاجراءات احادية الجانب، مفهوم التبادلية في الالتزامات الأمنية، القضايا العالقة في الاتفاق المرحلي منها الممر الآمن بين الضفة والقطاع وتشغيل المطار واطلاق سراح المعتقلين. وإذا كان من المبكر اصدار حكم نهائي على نتائج المبارزة الجديدة التي لم تنته بعد، فاستقراء مواقف الأطراف وتوجهاتهم ومصالحهم في هذه الفترة تساعد في التعرف على مسارها اللاحق وملامح نتائجها. وقول هوبير فيدرين وزير خارجية فرنسا "لا يمكن القول للاسف ان عملية السلام وضعت على سكتها السليمة مجدداً، ولم نر نتيجة بعد"، يلخص بدقة نتائج لقاءات نيويوركوواشنطن. وبالتدقيق في القضايا الكبيرة والكثيرة المختلف حولها، يستطيع كل مراقب محايد الجزم بأن وجود دنيس روس في المنطقة مدة اسبوع وجولة يومين للوزيرة أولبرايت غير كافية اطلاقاً للتوصل الى اتفاق. فمواقف نتانياهو قبل وبعد لقاءات واشنطن تظهر نياته ونيات حكومته السيئة. لم تكن المعضلة في لقاءات نيويورك - واشنطن الأخيرة ضيق الوقت، بل عدم رغبة نتانياهو في التوصل الى اتفاق واصراره على فرض مواقفه الهادفة دفن عملية السلام على مسارها الفلسطيني، وأيضاً في عدم رغبة أو عدم قدرة إدارة كلينتون المهزوزة ممارسة ضغوط جدية على حكومة ليكود. واعتقد انه طالما لم يعلن نتانياهو في واشنطن قبوله بالمبادرة الأميركية يبقى الوضع مفتوحاً على كل الاحتمالات، بما في ذلك تفكيك عناصر المبادرة وتحويلها الى سلسلة مبادرات تفصيلية غير مترابطة لا في الزمن ولا في الموضوعات. وبأن ما لم ينجح فيه الرئيس كلينتون ليس سهلاً أن ينجح فيه روس وأولبرايت، ويرجح أن لا تستطيع السيدة الوزيرة أولبرايت زف بشرى الاتفاق الذي طال انتظاره. لا سيما وأنهما قادمان ولا يحملان عصا سحرية غليظة، وغير مسلحين بموقف أميركي حازم. ويرجح عدم نجاح مهمة أولبرايت وروس حسب المعايير الفلسطينية. وسوف يصطدمان مرة أخرى بمصالح نتانياهو الحزبية وبعقيدة ليكود التي تعتبر الضفة الغربية أرض الميعاد التي وهبها الرب لبني اسرائيل. وجل ما يمكن أن تخرج به الوزيرة ومساعدها النجاح في أحسن الأحوال، في تسوية عدد من القضايا الجزئية من نوع تشغيل المطار وافتتاح المنطقة الصناعية في غزة. وسيسمع منها أهل المنطقة اعلاناً مكرراً عن تقريب وجهات نظر الطرفين حول عدد من القضايا المهمة... وترحيل الأخرى الى مفاوضات واشنطن. وللتغطية على فشلها ستعلن بأنها أبقت روس في المنطقة لاستكمال بحث الأفكار التي طرحتها وانجاز مزيد من الأعمال. وستنجح حتماً في شد أنظار الرأي العام الدولي باتجاه أزمة المنطقة وقضاياها المتفجرة، وشد أنظار الرأي العام الأميركي جزئياً نحو قضية أخرى غير "قضية مونيكا"، التي تشغل الرئيس كلينتون وتطغى على ذهنه على ما عداها من قضايا أخرى بما في ذلك قضايا الصراع في المنطقة والتوصل الى اتفاق صادق جديد. أما بشأن عقد قمة ثلاثية جديدة في واشنطن منتصف الشهر الجاري، فليس بالضرورة أن تعقد في موعدها رغم الاتفاق المسبق على ذلك. وإذا عقدت ليس بالضرورة أن تتوصل الى اتفاق، وإذا تم التوصل الى اتفاق ليس بالضرورة أن ينفذ. وهذه لن تكون المرة الأولى ولا الأخيرة التي يلتقي فيها نتانياهو مع الرئيس الأميركي ويخرج رافضاً الاستجابة لرغباته، أو التي يتراجع فيها عن وعوده والتزاماته ويتلاعب بالاتفاقات. والشواهد الحية على ذلك كثيرة، أولها تلاعبه باتفاق الخليل الذي وقعه، وآخرها زيارته الأخيرة للبيت الأبيض. ولن يعجز عن ايجاد الذرائع والمبررات لتعطيل انعقادها. فقبل وصول أولبرايت هدد زعماء حزبا المفدال وموليدت بتأييد تقديم الانتخابات للكنيست اذا وافق نتانياهو على تنفيذ النبضة الثانية من الانسحاب وإعادة الانتشار. وسنسمع في الاسبوعين من أطراف الائتلاف الحاكم في اسرائيل كلاماً كبيراً مشابهاً. وهذه اللوحة لمواقف الأطراف المحتملة، وقول الرئيس كلينتون حول المفاوضات "لا أعرف إذا كانوا سيتوصلون الى اتفاق، وطبعاً أرغب في ذلك بشدة" يفرض على الفلسطينيين المتفائلين بقرب التوصل الى اتفاق تخفيف تفاؤلهم. ويفرض على السلطة الفلسطينية المضي قدماً في تحضير الأوضاع الداخلية والعربية والدولية للاعلان يوم 4 أيار القادم عن قيام الدولة الفلسطينية على الأراضي التي احتلت عام 1967 وبدء ممارسة سيادتها عليها، والاسراع في انهاء حالة البلبلة والارباك التي اصابت الشارع الفلسطيني حول تصميم القيادة على اعلان الدولة في الرابع من أيار 1999. وخير للفلسطينيين شعباً وقيادة عدم التوصل الى اتفاق وبقاء وضع المسار الفلسطيني مأزوماً، من التوصل الى اتفاق سيئ يضعف الجبهة الداخلية، ويفكك التضامن العربي والدولي. وآمل أن لا تقدم حركة "حماس" الى نتانياهو مخرجاً مريحاً، والشيء ذاته ينطبق على الفلسطينيين المتعجلين والمتسرعين. * كاتب وسياسي فلسطيني