تضمنت المذكرة التي وجهتها وزارة الزراعة اللبنانية الى جامعة الدول العربية، ومنها الى الدول الاعضاء "الحياة" 5 - 9 - 1998 شقين مهمين: الاول مطالبة الدول العربية مراعاة اوضاع لبنان الدقيقة والخاصة الناجمة عن تكرر الاعتداءات الاسرائيلية على اراضيه. والثاني ابلاغ هذه الدول بأن لبنان، بسبب هذه الظروف، مضطر الى الامتناع عن تطبيق البرنامج التنفيذي لاقامة منطقة التجارة الحرة العربية تطبيقاً كاملاً. ففي حين يقضي هذا البرنامج بتخفيض الضرائب بنسبة عشرة في المئة على التجارة العربية البينية كل سنة وصولا الى الغائها كليا عام 2008، فان لبنان، كما اشارت المذكرة، سيبقي الضرائب على نسبة عالية من السلع الزراعية المستوردة من الدول العربية بقصد حماية منتجاته الزراعية المماثلة وحماية منتجيها من المضاربة العربية، ولن يبدأ في الغائها الا عام 2004. الجانب الاول من المذكرة جدير بأن يشغل حيزا رئيسياً في الاتصالات التي يجريها اللبنانيون مع الجهات العربية والرسمية من اجل توضيح معنى الضغوط التي يتعرض لها لبنان ونوع المساعدات والدعم الذي يستحقه رداً على هذه الضغوط. فلبنان يتعرض منذ عام 1968، اي منذ ان تحول الى ركيزة رئيسية من ركائز العمل المسلح ضد اسرائيل، الى ضغوط اسرائيلية شديدة عصفت بأمنه واقتصاده وازدهاره. والجبهة اللبنانية في جنوبلبنان هي جبهة المواجهة العربية الوحيدة الساخنة مع اسرائيل، ولسنوات طويلة ساهم اللبنانيون، الذين احتضنوا المقاومة الفلسطينية بصورة رئيسية، في ابقاء قضية فلسطين واحدة من القضايا الرئيسية في السياسة الدولية. ومنذ بداية الثمانينات اضطلعت المقاومة اللبنانية بدور مجلٍ في استنزاف الآلة العسكرية التوسعية الاسرائيلية ورد اخطارها والضغط عليها حتى تنسحب من سائر الاراضي العربية المحتلة، بما فيها جنوبلبنان. مقابل هذه التضحيات، ومساعدة للبنان على مقاومة الضغوط الاسرائيلية، فأنه جدير بالدول العربية بأن تعتبر الجبهة اللبنانية في الجنوب مسؤولية عربية وان تقدم للبنان ما يمكنه من الصمود في وجه الاسرائيليين. وليس في هذا الطلب من غرابة في منطق التكتلات القومية او حتى التحالفات الدولية الموقتة. فعندما تحالفت بريطانيا والولايات المتحدة الديموقراطيتين، من جهة، مع روسيا الشيوعية من جهة اخرى، من اجل هزيمة المانيا الهتلرية، وعندما لم يكن في وسع الحليفين الغربيين تلبية طلب ستالين بفتح جبهات متعددة ضد المانيا في أماكن اخرى في العالم تخفيفاً للضغط عن القوات السوفياتية، فإنهما عوضا ذلك بامداد الروس بمقادير هائلة من المساعدات المادية والعسكرية والغذائية تمكينا للجبهة الروسية من احتواء الهجوم الهتلري، على رغم ان هذا العمل "... أدى الى عرقلة برامج التسلح البريطانية وعرض الجزيرة البريطانية نفسها الى الاخطار"، كما جاء في رسالة بعث بها ونستون تشرشل، رئيس الحكومة البريطانية الى ستافورد كريس، سفير لندن في موسكو. مقارنة بهذه الواقعة، نجد ان الدول العربية قدمت دعماً الى لبنان، الا ان هذا الدعم بقي بمجمله محدوداً، وفي كثير من الاحيان لفظياً. فعلى سبيل المثال لا الحصر، نجد ان لبنان لم يستلم حتى الآن الا القسم الاقل من مبلغ الخمسمئة مليون دولار التي قررها له المجلس الوزاري للجامعة العربية عام 1993. من حق لبنان الرسمي والشعبي، اذن، ان يتقدم الى الدول العربية بجملة مقترحات ومشاريع يحدد فيها الوسائل والاساليب والاجراءات التي تتمكن من خلالها هذه الدول من مساندة لبنان ومساعدته بصورة فعالة، وان يطالبها، باسم المصالح العربية المشتركة، بالاخذ بهذه المقترحات. فهل يصح ان يكون من بينها التدابير التي اشارت اليها وزارة الزراعة اللبنانية بشأن الامتناع عن تخفيض الضرائب على واردات لبنان الزراعية وفقاً لما اقر في البرنامج التنفيذي لاقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى؟ مذكرة وزارة الزراعة اللبنانية تتعارض، في اكثر من موضع، مع ما اشارت اليه من اهمية التفهم والدعم العربيين للبنان، فمن يطالب الآخرين بمراعاة مقتضيات التضامن العربي عليه ان يكون هو حريصا على مراعاة قواعد العمل المؤسسي العربي الجماعي، وان يعمل باستمرار على ترسيخه. وهذه المراعاة تقتضي بدورها السعي الى تكوين المواقف والمشاريع المشتركة ثم العمل على تفعيلها ونقلها الى حيز الواقع. من هذه الناحية نجد ان برنامج تنفيذ منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى لم يخرج فجأة الى النور، ولم يضع أياً من الجهات العربية المسؤولة، بما فيها وزارة الزراعة اللبنانية، امام الامر الواقع. بالعكس، فإن البحث في هذا البرنامج استغرق ما يفوق العام ونصف العام، نوقش خلالها مشروع البرنامج بخطوطه العامة ثم في تفاصيله، في عدة مجالس وزارية عربية، وفي العديد من اللجان المختصة التي ضمت خبراء عرباً يمثلون سائر الدول، ومنها لبنان بالطبع. وفي هذه الاجتماعات كانت المقترحات التي تقدمت بها الامانة العامة لجامعة الدول العربية بشأن "آفتا" موضع مناقشات مستفيضة وملاحظات عديدة قدمها المشتركون فيها خلال هذه الاجتماعات التي بدأت في صيف عام 1996، اي بعد القمة العربية، التي اسفرت عن اعلان المنطقة الحرة في آذار مارس 1997، وكان من المتفق عليه ان تراعي الظروف الخاصة التي تمر بها بعض الدول العربية. كان في استطاعة وزارة الزراعة اللبنانية، مثل اية جهة عربية رسمية اخرى، ان تبدي ملاحظاتها خلال تلك الفترة التي سبقت ولادة البرنامج، وان تلفت النظر الى مصالح بعض فئات المزارعين اللبنانيين، والى ما تضمنته المذكرة اللاحقة حول الضغوط التي يتعرض لها لبنان واللبنانيين، وان تطالب بابقاء الحماية على منتجاتهم اذا كان ذلك محقاً وفي محله. إلا ان وزارة الزراعة اللبنانية لم تبد تحفظاتها على البرنامج التنفيذي لاقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى عندما كان مشروعا قيد الدرس. فهل هناك من ضرر من طرح هذه التحفظات الآن وفي مذكرة مستقلة الى الجامعة العربية؟ نعم، هناك ضرر في اعادة فتح باب الجدل مجدداً بصدد البرنامج التنفيذي لاقامة المنطقة. فهذا يعني اعاقة لهذا المشروع الملح والحيوي الذي تعلق الاوساط الاقتصادية العربية عليه أوسع الآمال، في حين يجب ان تنصب الجهود، كل الجهود، على المضي في تطبيق البرنامج التنفيذي بدون تلكؤ وتردد، وعلى مطالبة الدول العربية كلها بالالتزام به والعمل بمضمونه. فضلا عن ذلك فإن المطالبة المتأخرة والانفرادية بإعفاء طرف من الالتزام بمثل هذا المشروع المهم تحمل في طياتها ايضا إضعافاً لأسلوب العمل الجماعي ولآليات العمل العربي المشترك، التي تشكو اساساً من الضعف، والتي تحتاج الى جهد متواصل وسعي حثيث من اجل ترسيخها وتوطيد اسسها وبنيانها. فهل يفيد مزارعو لبنان اذا اسفرت المذكرة التي تقدمت بها وزارة الزراعة اللبنانية الى الدول العربية الاخرى عن مثل هذه النتائج.؟ ان تحرير التجارة العربية سيؤدي بالضرورة الى اصابة قطاعات اقتصادية عربية ولبنانية بالاضرار، ومن بينها فئات من المزارعين اللبنانيين الذين سيجدون صعوبة في بيع منتجاتهم عندما تنخفض اسعار الواردات الزراعية العربية في الاسواق اللبنانية. الا انه في كل مشروع من هذا النوع تفوق الارباح التي يجنيها البلد ويجنيها اقتصاده بصورة عامة بكثير خسائره من جراء انضمامه اليه. وهذا النوع من المكاسب والارباح الذي يعم الاكثرية من المواطنين يوفر للدول المشتركة في مشاريع التعاون الاقليمي الموارد المادية الكافية للتعويض على المتضررين. هذا الاقتناع موجود في لبنان لأن صادراته الى الدول العربية تفوق وارداته منها، ولان المنطقة العربية هي السوق الطبيعية للصادرات اللبنانية الزراعية وغير الزراعية. وهذا ما اكدته الوفود الرسمية والاقتصادية اللبنانية التي كانت تزور مصر والعراق وتعقد الاتفاقات مع الكويت في الفترة نفسها التي تقدمت فيها وزارة الزراعة اللبنانية بمذكرتها الى الجامعة العربية. وهذا ما اكده في نهاية المطاف البيان الذي صدر عن الوفد اللبناني الى اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي العربي الذي انعقد في القاهرة في مطلع هذا الشهر ايضاً، اذ اكد التزام لبنان، وفقا لما جاء في قرار صادر عن وزارة الاقتصاد والتجارة اللبنانية، بتطبيق البرنامج التنفيذي لانشاء المنطقة. ان هذه التأكيدات مفيدة وتلقي ضوءاً على الموقف الرسمي اللبناني من مشروع افتا. ولكن لإجلاء هذا الموقف بصورة حاسمه يجدر بوزارة الزراعة ان تتخذ التدبيرين الآتيين: اولا، سحب مذكرتها الى الجامعة وتأكيد عزمها على التعاون مع الوزارات اللبنانية الاخرى في تطبيق المشروع الاهم من مشاريع التعاون الاقليمي العربي. ثانيا، مطالبة الدول العربية الاخرى باتخاذ التدابير الآيلة الى زيادة وارداتها الزراعية من لبنان، وذلك كتعبير عن التضامن مع اللبنانيين الذين يتكبدون المشقات ويقدمون التضحيات الكبيرة وهم يكافحون لاخراج جيش الاحتلال الاسرائيلي من ارضهم، ولحماية المنطقة العربية من مشاريع التوسع والهيمنة الاسرائيلية. * كاتب وباحث لبناني