تعتبر مسألة العملة الأوروبية الموحدة - اليورو - في مقدمة المسائل التي تستأثر حالياً بالاهتمام العام في الدول الأوروبية. ويبرز هذا الاهتمام على كل صعيد وفي كل مناسبة. ففي بريطانيا، مثلاً، كانت هذه المسألة من القضايا الرئيسية التي تمحورت حولها الانتخابات الأخيرة التي جاءت بحزب العمال الى الحكم. وبعد الانتخابات. لبثت هذه القضية تشغل الأوساط الحزبية والنقابية والاقتصادية والاعلامية البريطانية. وبسبب أهمية هذه القضية فان الجدل حولها أدى الى اعادة تشكيل التحالفات على نحو يتجاوز أحياناً الانقسامات الحزبية التقليدية فالذين يؤيدون الانضمام الى مجموعة دول اليورو من المحافظين يبدون أقرب الى أولئك الذين يتخذون الموقف نفسه في حزبي العمال والأحرار الديموقراطيين. بينما يلتقي المحافظون الثاتشريون الذين يعارضون الانضمام الى العملة الأوروبية الموحدة مع أقصى اليسار في حزب العمال حول هذه النقطة. وقد يتسع الاهتمام بقضايا الاندماج الأوروبي في بريطانيا أكثر من غيرها من دول الاتحاد لفرط تمسك الرأي العام البريطاني بهويته القومية، الا ان هذا الاهتمام موجود وموزع على كافة دول الاتحاد. واذا كان الجدل يتمحور حالياً حول مسألة الانقسام الى اليورو، فإن ذلك يعود الى أمرين: الأول هو انها مهمة في حد ذاتها حيث ان توحيد العملة الأوروبية يعتبر خطوة كبرى نحو تحقيق الاتحاد الأوروبي، والثاني لأنها مطروحة حالياً بحكم الجدول الزمني لتحقيق عملية الاندماج الأوروبي. من هذه الزاوية يمكن القول، ان كل خطوة من خطوات التكتل أو الاندماج الأوروبي، مثل مسألة الانتقال الحر بين الدول الأعضاء أو مسألة العقد الاجتماعي الأوروبي، رافقها جدل واسع شمل كافة الأوساط المعنية بالشأن العام عندما حان أوان تنفيذها. تمكنت القيادات الأوروبية، الرسمية والشعبية، المؤيدة للاتحاد من كسب أكثر جولات الحوار والجدل هذه، ولكنها فعلت ذلك عن طريق تعريف الرأي العام على مزايا مشاريع التعاون الأوروبي، فعندما بدأت مشكلة البطالة تطل برأسها على دول السوق نشرت دراسات بينت ان تحقيق الاتحاد الأوروبي سيوفر ما يقارب الخمسة ملايين عمل جديد في دول الاتحاد قبل نهاية القرن. وقبل تحقيق أية خطوة على طريق الاندماج الأوروبي كانت القيادات الأوروبية المسؤولة تعد لهذه الخطوة اعداداً مبكراً وواسعاً، وتسعى الى توفير أفضل المناخات الملائمة لنجاح هذه الخطوة. فهل يمكن ان يقال الشيء ذاته عن التحضير لتطبيق البرنامج التنفيذي لاتفاقية تيسير وتنمية التبادل التجاري بين الدول العربية لاقامة منطقة تجارة حرة عربية كبرى افتا؟ هل يمكن ان يقال انه أعد اعداداً كافياً لهذه الخطوة التي دخلت حيز التنفيذ - كما هو مقرر - في الأول من كانون الثاني يناير 1998. خلافاً لما حدث ويحدث في الاتحاد الأوروبي، فإن الاهتمام بعملية تأسيس افتا يبدو ضئيلاً وغير متناسب مع أهمية هذا المشروع، أو مع حجم الآمال التي تعلقها عليه الأوساط العربية المعنية. وتبرز محدودية الاهتمام بهذه العملية في مجالين رئيسيين: الأول هو قلة المعلومات المتوافرة لدى الرأي العام العربي حول الاستعدادات للبدء بتطبيق البرنامج التنفيذي، والثاني، هو تدني مستوى اهتمام الجهات العربية المعنية بهذا البرنامج وبموعد اطلاقه. فمن حيث المعلومات نجد انها معدومة تقريباً، وان ما نشر منها يثير الحيرة بدلاً من ان يعرف المواطنين العرب على مجريات الأمور. ففي منتصف شهر كانون الأول ديسمبر المنصرم تقريباً، أعلن في ختام الاجتماعات التي عقدها رؤساء ومديرو الجمارك العربية انه سوف يجري خفض بنسبة 10 في المئة على كافة السلع العربية في جميع المنافذ الجمركية العربية، وذلك وفقاً لما هو مقرر في البرنامج التنفيذي. كما أعلن أيضاً ان المجتمعين قرروا تطبيق كافة القرارات والتوصيات التي جاءت في اطار هذا البرنامج مثل توحيد وتبسيط بيانات واجراءات الجمارك تسهيلاً وتشجيعاً للتبادل التجاري العربي. وفهم من ذلك ان الدول العربية كافة، باستثناء السلطة الفلسطينية لاعتبارات متعلقة بسيطرة اسرائيل على منافذها الجمركية، ستنفذ هذه الاجراءات، بيد انه، بعد أيام قليلة، أعلنت جامعة الدول العربية ان عدد الدول العربية التي ستطبق الاجراءات المقررة في البرنامج التنفيذي ستقتصر على 17دولة من التي حققت تقدماً في مجال الاصلاح الاقتصادي. ان التزام 17 دولة عربية بتطبيق البرنامج التنفيذي لاقامة افتا يعتبر انجازاً مهماً اذا اخذنا في الاعتبار الشكوك الواسعة التي احيطت بمشروع تحرير التجارة العربية. في المقابل فان تخلف عدد من الدول العربية عن المباشرة في تطبيق البرنامج في الموعد المقرر فهو أمر لا يثير التساؤل اذا كان قد اتفق عليه في المجالات والاطارات المناسبة. بيد ان ما يثير القلق هو ان يعلن عن تراجع هذه الدول عن الالتزام بالبرنامج بعد ان كانت قد أقرته في اجتماعات المجلس الاقتصادي والاجتماعي وبعد ان اعلن ان الجميع قد اتفق على البرنامج التنفيذي باستثناء تحفظات جزئية وضعتها دولة واحدة فقط. فاذا كان عند هذه الدول ما ترغب في تعديله في البرنامج التنفيذي فلماذا لم تفعل ذلك في الاجتماعات التي أقر فيها ذلك البرنامج؟ أو لماذا أعطي الانطباع ان البرنامج يحظى بموافقة الجميع؟ ثم انه ما معنى ان يعلن عن تراجع الذين وافقوا على البرنامج عن تطبيقه قبل أيام قليلة من بدء التنفيذ وبعد ان أعلن ان الجمارك العربية كلها ستبدأ في تخفيض الضرائب على السلع العربية؟ ألا يكرس هذا سابقة يمكن لمن يشاء تكرارها فتراجع دول اخرى من الدول السبع عشرة في ما بعد عن تطبيق البرنامج التنفيذي بقرارات مفاجئة ومن دون توضيح كافٍ لأسباب التراج، بل من دون ان يعرف المواطن العربي من هي الدول التي تخلت عن تطبيق البرنامج كما هو الأمر الآن. ان التبديل المفاجئ في المواقف الحكومية العربية ليس أمراً مفاجئاً ولا مستحيلاً ولا صعباً. ولكن لعل التبدل يكون أقل سهولة لولا الظاهرة الثانية التي أشرنا اليها أعلاه حول تدني اهتمام الجهات العربية التي أعلنت تأييدها لقيام افتا بالبرنامج التنفيذي لتحرير التجارة العربية. لقد أعربت أوساط عربية عدة، رسمية وأهلية، تبنيها لفكرة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى كمقدمة لقيام السوق العربية المشتركة وكشرط ضروري لتحقيق التكامل الاقتصادي العربي. فكيف ترجمت هذا التبني والتأييد؟ وهل ساهمت هذه الجهات في ايجاد الأجواء الملائمة لاطلاق البرنامج التنفيذي لقيام "افتا"؟ اتحاد البرلمانيين العرب كان، على سبيل المثال، من بين تلك الجهات التي أعلنت تأييدها القوي لمشاريع التكامل الاقتصادي العربي فاعتبر في البيان الختامي الصادر عن دورته السابعة التي انعقدت في شهر أيار مايو عام 1997 ان "السوق العربية المشتركة هدف ذو أولوية قصوى لمواجهة المتغيرات والتطورات الاقتصادية والاقليمية والدولية". واتخذ قراراً بپ"تشكيل شعبة في البرلمانات العربية للسوق العربية المشتركة لإعطاء قوة دفع مؤثرة في الدول العربية للتحرك في سبيل اقامته". لقد مضت أكثر من سبعة أشهر على هذا القرار، فلم تشكل حتى الآن شعبة واحدة في البرلمانات العربية، ولو نشأت هذه الشعبة خلال الأشهر المنصرمة لكان من المستطاع ان تضطلع بدور في توسيع الاهتمام العام بالبرنامج التنفيذي لقيام افتا وبتوفير فرصة أكبر لتحرير التجارة العربية البينية. ان هذا لا يعني ان الاتحاد هو نفسه اداة نشيطة وفاعلة سواء في التعبير عن الرأي العام أو في توجهه. ولكنه، على محدودية صفته التمثيلية وقدرته التأثيرية، يملك الاسهام في خلق اجواء أفضل لبدء عملية تحرير التبادل التجاري العربي. المؤتمر السابع لرجال الأعمال والمستثمرين العرب الذي انعقد في بيروت في شهر تشرين الأول اكتوبر 1997، هو ايضاً نموذج للجهات العربية التي أبدت تأييدها لاقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى. وفي تقريره الختامي لم يعرب عن تأييده لهذا المشروع فحسب، بل دعا الى "الجدية في تطبيق البرنامج التنفيذي" لاقامة المنطقة، كما دعا أيضاً الى "درس امكان تقليص فترة تنفيذ البرنامج من عشر سنين الى خمس أو سبع سنين". ولا ريب انه من المفيد ان يتخذ المؤتمر، كما انه من المفيد ان يتخذ اتحاد البرلمانيين العرب من قبله مثل هذه القرارات والتوصيات وان تصدر عنه مثل هذه الدعوات، ولكن كان من الأفضل لو اقترن هذا كله بتحرك مستديم من اجل تفعيل هذه القرارات والتوصيات والدعوات، والا فكيف نضمن الجدية في تحرير التجارة العربية البينية ومن يدرس امكان تقليص برنامجها التنفيذي اذا لم يكن هناك من يتابع هذه الدعوات ويقنع أصحاب القرار العرب بأهمية هذه المشاريع؟ ان قائمة الجماعات التي تؤيد مشروع افتا والتي يمكنها ان تبذل جهداً أكبر في سبيل دعم برنامج تنفيذها تشمل هيئات اخرى عدة ولا تقتصر فقط على اتحاد البرلمانيين العرب ومؤتمر رجال الأعمال العرب، ولئن فاتت هذه الجماعات فرصة تحضير اجواء اطلاق البرنامج التنفيذي، فإن فرصة المساهمة في توفير أسباب تقدمه لا تزال متوفرة. فهل يخطو الاتحاد خطوة أو خطوات ملائمة على هذا الصعيد؟ ان المجال لا يزال مفتوحاً أمام تشكيل الشعب البرلمانية المختصة بمتابعة مسألة تحرير التجارة العربية البينية. والمجال لا يزال مفتوحاً أمام الاتحاد لكي يدعو الهيئات العربية الأهلية المعنية مثل مؤتمر المستثمرين واتحاد غرف التجارة والزراعة والصناعة العربية ومجلس رجال الأعمال العرب ومؤتمر الأحزاب العربية والمؤتمر القومي العربي وروابط اصدقاء جامعة الدول العربية ومؤتمر المنظمات العربية غير الحكومية وغيرها من الجماعات المماثلة، هذا فضلاً عن الامانة العامة لجامعة الدول العربية، الى مؤتمر يخصص لوضع خطة تحرك من اجل توفير فرص نجاح البرنامج التنفيذي لاقامة منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، المجال لا يزال مفتوحاً امام اتحاد البرلمانيين العرب للمساهمة في تحقيق مشروع له عنده الأولوية القصوى من بين أهدافه، فهل يفعل؟