فرضت الثورات العربية نفسها على برامج مراكز الدراسات والبحوث، فجهدت هذه الأخيرة في تتبع ومواكبة واستشراف التغيرات التي وقعت، ولا سيّما ما خص الأسئلة ذات الصلة بالحكم والسلطة، ومنها مسألة الأقليات ووضع المرأة وفكرة المواطنة ونموذج الديموقراطية. وقام مركز «المسبار» في الإمارات العربية المتحدة وعلى نحو دوري بنشر بحوث متخصصة تقارب أبرز القضايا والأسئلة الشائكة التي تواجه المجتمعات العربية، ومنها قضية «الأقليات الدينية والإثنية بعد الربيع العربي» (دبي، مركز المسبار، 2012)، التي نعرض للأوراق التي تناولتها. في دراستها «الأكثرية والأقلية في الإسلام المعاصر: جدلية الفقه الحركي والواقع»، تلتقط ريتا فرج، الباحثة اللبنانية، لحظة التاريخ العثماني مدخلاً للحديث عن مشكلة الأقليات في تاريخ المنطقة والتي لم تكن حادة وبارزة آنذاك، بسبب من إدارة الدولة وتنظيمها لها. فمنذ اتفاقية سايكس – بيكو والانتداب الغربي على بلداننا، راجت مشاريع الأكثريات والأقليات (الدينية والعرقية) في دول خاصة بها، وحين قامت الدول الوطنية في منطقتنا، اعتبرت العروبة رابطاً جامعاً لها ولم تضع خططاً لحماية الإرث التعددي القائم. تهتم الباحثة بإبراز موقف الفقه الإسلامي عموماً من هذه المسألة، الذي أنتج مفاهيم دار الإسلام ودار الحرب وأهل الذمة، وهي لها في الأصل سياقاتها الزمانية والمكانية ولا تؤخذ على إطلاقها. وقد أنتج ما سمّي بالإسلام السياسي أو الحركي بدوره مواقف من مسألة الأقليات. تركز فرج على نماذج ثلاثة: «الإخوان المسلمون» والسلفيون في مصر و «حركة النهضة» في تونس. وفي متابعتها لخطاب الإخوان رأت تحولاً في اللغة، حيث إنهم في برنامج «حزب الحرية والعدالة» (2011) وهو الجناح السياسي لهم، أشاروا الى التعددية وحرية التعبير والنظام البرلماني والمواطنة من دون إسقاط مسألة «تطبيق الشريعة» ولو كان من ضمن رؤية متجددة ومنفتحة. طرح راشد الغنوشي، زعيم حركة النهضة التونسية، مفهومه للمواطنة العامة وأقامها على شرطين: الانتماء الى الإسلام والسكن في قطر الدولة الإسلامية، وتبنت حركته في العام 2011 مبادئ أبرزها: المرجعية الوسطية للإسلام، والدولة المدنية، واحترام حقوق الإنسان وضمان حقوق الأقليات مع تشديد على النظام الجمهوري والنظام البرلماني وحماية الحريات العامة والمساواة. أما الأحزاب السلفية على تنوعها، فهي تنطلق من مبادئ الشريعة الإسلامية وترى الى الأقباط شركاء في الوطن من دون الإشارة الى «الحقوق السياسية» كما تلاحظ كاتبة «العنف في الإسلام المعاصر». وترى الباحثة كخلاصة أن بناء الدولة الحديثة يشكل الضمان الأكيد للأقليات. يُفضل المفكر العراقي، عبد الحسين شعبان، في مقاربته «المسيحيون والصابئة والمندائيون في ظل حكم حزب الدعوة»، استخدام مصطلح التنوع الثقافي بدلاً من الأقليات في بلده المتعدد الأقوام والأديان والذي لم يعرف تاريخه الحديث صدامات أو نزاعات حادة لتغلب «الهوية العراقية»، وإن كان – كما يُقر بذلك – على حساب الهويات الفرعية. لكن الاحتلال الأميركي في العام 2003 وما أثاره من مشاكل قاد الى إيقاظ المخاوف بسبب سياسات الإقصاء والتصفية التي شملت الكل، ولكنها بدت كارثية على «الأقليات» ولا سيّما المسيحية والصابئة والأيزيدية، وتعزز هذا الوضع مع سلطة الميليشيات المسلحة وصعود نجم التيار الإسلامي ولا سيّما الشيعي وتمدد تنظيم «القاعدة»، واستخدام العنف وسيلة للإقصاء في ظل غياب مرجعية الدولة الجامعة، وعدم إيلاء الأولوية لمسألة حقوق المواطنة والمساواة وعدم التمييز. يدرس الجزائري إبراهيم بحاز، من جامعة غرداية، «جبل نفوسة بين الماضي والحاضر»، ذلك الجبل الواقع في ليبيا شرق مدينة قابسالتونسية والمتضمن نحو 300 قرية، سكانه من البربر على المذهب الإباضي منذ القرن الثاني هجري / الثامن ميلادي الى اليوم. وقد ساهم الجبل في إعلان الإمامة الإباضية، وأدى أدواراً مهمة في عهود الفاطميين والزيريين. وكان لعلماء الجبل دورهم في إغناء الفكر الإباضي، وقد عانى أهل الجبل كثيراً من السلطة الليبية البائدة أيام القذافي سجناً وتعذيباً وتشريداً. أما الباحث التونسي، شكري الصيفي، الذي تناول «الأقلية الشيعية في تونس النهضة» فقد رأى أن سؤال الأقليات مستجد على المشهد التونسي بعد الثورة ذات الغالبية السنية المالكية، ولا سيّما أن معتنقي المذهب الشيعي غير ظاهرين ومؤسساتهم لم تتشكل بعد، وحضورهم، وفق الصيفي، «لا يُمثل ظاهرة مذهبية فقهية فحسب، بل ظاهرة سياسية ودينية»، وهو موضع سجال وتجاذب «في ظل عودة المشهد الديني في تونس الى سجالات القرن الأول للهجرة». ومع انتصار الثورة، أتى الاعتراف بالجمعيات الشيعية وتعزز وضع البعض منها مثل «جمعية أهل البيت» (الموجودة منذ العام 2003). ويحاول الشيعة تجذير حضورهم من خلال المكتبات بمثابة «إطار ثقافي عقائدي» وإقامة الاحتفالات الدينية. ويتوقع الباحث أن يُشهر الشيعة أفكارهم أكثر ويُعززوا حضورهم السياسي من خلال الأندية والجمعيات. يطرح الباحث المغربي عبدالحكيم أبو اللوز قضية «حرية المعتقد الديني بين القانون وإكراهات الواقع» (بمشاركة من سويدي محفوظ)، فيحدس بأن «الربيع العربي» قد يؤثر سلباً في أوضاع الأقليات الدينية (المسيحية واليهودية والبهائية والشيعة) والعرقية (الأمازيغ) والأقليات الموريسكية في المغرب. ونظراً لكون الإسلام هو المرجع، فإن الدستور المغربي لا يشير الى وضع الأقليات، وإنما هناك مواد تكفل حرية الاعتقاد والعبادة. ونجد في الدستور الجديد مماهاة بين الهوية المغربية والإسلام وإقراراً بالتعددية وبوجود روافد لهذه الهوية. فحص المتخصص في الشؤون الإيرانية، الأردني نبيل العتوم، وضع «الأرمن واليهود في عهد الثورة الإسلامية الإيرانية»، فوجد أن الدستور الإيراني يحفظ للأقليات التاريخية (اليهود والمسيحيين والأرمن والأشوريين والزرداشتيين) حقها في حرية ممارسة عقائدها، وأن العلاقة معهم ترعاها القوانين الإسلامية وما يُقره الإسلام كدين في كيفية التعامل معهم... في حين أن العلاقة مع الكنيسة المسيحية تحولت الى علاقة صراعية بسبب تحول بعض الشبان الى المسيحية ورؤية الثورة الإسلامية الى الكنيسة كامتداد للعالم الغربي. تناول الأكاديمي السوداني، عبده مختار موسى، بدوره حال «الأقليات في السودان: الوثنيون والأقباط وآخرون»، وهو يُسلم بأن وضع الأقباط في السودان جيد وهم «يتمتعون بكل حقوق المواطنة»، ويعزو ذلك الى قلة عددهم (نحو 7000 شخص) وعدم تقديم نفسهم كلاعب سياسي، ما يجعل الباحث لا يتوقع أي نزاع بينهم وبين المسلمين... بخلاف الوثنيين الذين يُقدمون على أنهم عرق لا أقلية: هم زنوج وأفارقة، ويعانون بالتالي من تمييز وتفرقة في بلد يُعد «فسيفساء عالية التنوع». أما محمد نور الدين، الأكاديمي المتخصص في الشأن التركي، فقد قارب «الأقليات في تركيا في ظل حزب العدالة والتنمية»، فتبدى له أن تركيا الحديثة ورثت مشكلة الأقليات ومشكلة التمييز ضدها، ولعل المسألة الكردية هي الأكثر ظهوراً للعيان بسبب تداعياتها على الجمهورية التي ومنذ قيامها حاولت نفي الهوية الكردية واعتبار الكل في تركيا «ينتمون الى الأمة التركية». وحمل وصول حزب «العدالة والتنمية» الإسلامي التوجه الى الحكم عام 2002 أملاً في معالجة مختلفة للملف الكردي ولا سيّما بعد الاعتراف ب «واقع كردي». وما حصل أن أردوغان وبعد اعترافه في عام 2005 بوجود «قضية كردية»، لم يبادر الى ترجمة ذلك فعلياً على أرض الواقع، ما عدا ما أطلق عليه خطة «الانفتاح الكردي». ويعرض الباحث حال «الأقليات المسلمة»: العلويون والشيعة الأتراك وهم أصحاب مطالب خاصة. أما اليهود كأقلية دينية فحقوقهم مُصانة قانونياً بموجب معاهدة لوزان (1923) بخلاف المسيحيين الذين يتعرضون لمضايقات وتُتهم كنيستهم بممارسة التبشير. يدرس عبدالغني عماد، المتابع لأدبيات الإسلام الحركي «خطاب المواطنة والإسلام السياسي المعتدل»، ويُقدم مُطالعة فكرية تعكس النقاش السائد داخل التيارات الإسلامية وموقفها من مفردات المواطنة والديموقراطية والدولة... فيبسط جملة من الآراء الجريئة التي اجتهدت وحاولت تطوير مفهوم المواطنة من منظور إسلامي، وأثمرت تياراً فقهياً واسعاً حاول تأصيل مفاهيم الدولة المدنية والوطنية والقومية وتغيير النظرة الى المرأة. ختام الكتاب مراجعة الباحثة ريتا فرج لمؤلف صالح زهر الدين «الحركات والأحزاب الإسلامية والآخر» (بيروت، دار الساقي، 2012)، أي موقف الأحزاب والحركات ذات المرجعية الإسلامية من المخالف لها، من «الإخوان المسلمين» في مصر الى «حزب الله» في لبنان مروراً بحزب التحرير وحركة «حماس» في فلسطين.