ثمة جدل إعلامي وسياسي واجتماعي متواصل، حول طبيعة العلاقة التي تربط الأكثريات الشعبية بأقلياتها المتنوعة. وهل من حق هذه الأقليات المطالبة بحماية خصوصياتها الثقافية واللغوية والدينية والمذهبية، أم واجبها يقتضي الذوبان في بحر الأكثرية. هذه الأسئلة وأمثالها، تعد جوهر الجدل الإعلامي والسياسي القائم في أكثر من مجتمع متعدد ومتنوع، ويعاني من سوء فهم أو علاقة بين أكثريته وأقليته، بصرف النظر عن معيار هذه الأكثرية أو الأقلية. ووفق المعطيات القائمة ثمة حاجة في أكثر البلدان العربية والإسلامية التي تحتضن تنوعات وتعدديات أفقية وعمودية، إلى تجسير العلاقة وتقوية أسسها الوطنية عبر نظام الشراكة المتساوية والتفاعل المشترك في بناء الراهن وصياغة المصير. وبعيداً عن المضاربات الأيدلوجية المختلفة، نتمكن من القول: إننا في الفضاء العربي والإسلامي نعيش مأزقاً واقعياً وحقيقياً في طريقة التعامل بين مختلف تعبيرات الوطن الواحد. بحيث ان العلاقة في أغلب دول هذا الفضاء تعاني من التباسات وهواجس وعلاقات مضطربة لأسباب ذاتية وموضوعية عديدة. وفي زمن الاصطفافات الطائفية العابرة للمجتمعات والجغرافيا السياسية لجميع الدول، ثمة ضرورة إلى بناء رؤية جديدة في طريقة تعامل التعدديات الدينية والمذهبية والقومية مع بعضها البعض. صحيح أن العالم العربي ومجتمعاتنا جميعا تحتضن أقليات دينية ومذهبية وقومية، إلا أن هذه الأقليات جميعاً تنتمي ثقافياً وحضارياً إلى ذات الثقافة والحضارة التي تنتمي إليها الأكثرية. فالمسيحي العربي هو جزء أساسي من التكوين الثقافي والحضاري العربي، ولقد أبدع المسيحيون العرب في خدماتهم الجليلة عبر حقب التاريخ إلى الثقافة العربية وانتمائهم الحضاري العربي الإسلامي. فالانتماء الديني للمسيحيين العرب، لم يكن حائلاً أمامهم للاندماج مع الثقافة العربية الإسلامية وتقديم خدمات نوعية في مسيرة الثقافة العربية. كما أن الأقليات المذهبية في العالم العربي، هي كذلك جزء أساسي من التكوين الثقافي العربي الإسلامي. فأغلب هذه الأقليات هم يتحدون مع الأكثرية في قوميتهم فهم كالأكثرية الساحقة عرب أقحاح ويعتزون بعروبتهم وقدموا عبر حقب التاريخ الكثير من الخدمات الجليلة والنوعية لمسار الثقافة العربية والإسلامية. إن هذه الأقليات تنتمي مذهبياً إلى مدرسة فقهية مختلفة عن المدرسة أو المدارس الفقهية التي تنتمي إليها الأكثرية العربية، إلا أنها تنتمي وتشترك مع الأكثرية في انتمائها الديني. فالجميع مسلمون ويعتزون بإسلامهم، وكل مدارسهم الفقهية هي روافد تغذي جميعاً شجرة الإسلام. إننا نعتقد بأهمية أن تعمل جميع الأقليات في أوطانها، على تظهير بعدها الوطني، وتجسير العلاقة بكل أبعادها مع شركائها في الوطن. وان جميع العقبات التي تعترض تفاعلها واندماجها الوطني، لا يمكن معالجتها إلا على قاعدة وطنية كما أن غالبيتهم على المستوى القومي، هم عرب ويعتزون بعروبتهم. وذات الكلام ينطبق أيضاً على الأقليات القومية والعرقية التي تحتضنها المجتمعات العربية. وبالتالي فإن من الحقائق الثابتة في الاجتماع العربي المعاصر أنه ثمة روابط عميقة ثقافية واجتماعية وحضارية ووطنية تربط أكثريات العالم العربي مع أقلياته. وإن هذه الروابط ينبغي أن لا تغيب ونحن نقارب أي مسألة على مستوى العلاقة بين الأكثريات والأقليات في العالم العربي. فلا توجد على المستوى القومي العربي، أي أقلية ليست على صلة عميقة وتاريخية مع الأكثرية العربية. فالأكثرية تشترك مع الأقلية في دوائر انتماء عديدة، وهذه الدوائر المشتركة ينبغي أن تكون حاضرة وبقوة في أي مجتمع عربي، يحتضن أقليات دينية أو مذهبية أو قومية. وعليه فإن مستوى التداخل بين فئات ومكونات المجتمعات العربية، يسهل من عملية الاندماج بين كل التعبيرات، بحيث لا تتحول حقيقة التنوع إلى معضلة تحول دون صلابة الصف الداخلي العربي. ونود في هذا السياق التأكيد على النقاط التالية: 1 من الضروري الالتفات إلى حقيقة أن جميع هذه الأقليات، ينبغي أن لا تحمل مشروعاً سياسياً وأيدلوجياً خاصاً بها. فهي جزء من الواقع العربي المعاصر، وأن مشكلاتها هي جزء من مشكلات المجتمعات العربية، وأن خصوصياتها الثقافية ينبغي أن تحصل عليها وتحمى في سياق الوحدة الوطنية في داخل كل مجتمع عربي. وإن أيّ أقلية تحمل مشروعاً مضاداً لانتمائها العربي الإسلامي، فإن مصيره الفشل والإضرار بالواقع الذي تعيشه هذه الأقليات. فمن حق هذه الأقليات أن تعتز بخصوصياتها الثقافية وذاكرتها التاريخية، ولكن ترتكب حماقة تاريخية وخطيئة كبرى بحق ذاتها وانتمائها القومي والديني، حينما تتبنى مشروعاً خاصاً بها بعيداً عن شركائها في الوطن. فالمشروعات الأيدلوجية والسياسية الخاصة بالأقليات بعيداً عن محيطها الاجتماعي والوطني مآلها الإخفاق والاندثار. لأن الانحباس في ظل الأطر الضيقة، سيفوت الفرصة على هذه الأقليات العيش بسلام مع محيطها الوطني. فمشروع الأقليات هو مشروع أوطانها، وإن تحسين أوضاعها مرهون ومرتبط بتحسين أوضاع الجميع. فلا حلول بعيداً عن الحلول الوطنية. ومهما كانت الصعوبات والمثبطات أو الإغراءات عليها (أي الأقليات) أن تتمسك بخيارها الوطني. 2 على مستوى الهوية الثقافية والحضارية للواقع العربي المعاصر، لا توجد هوية خالصة لكل مكون في الاجتماع العربي. فهوية الجميع مركبة ومتداخلة، بحيث تجد مستوى التداخل الهوياتي بين الأكثريات والأقليات. فبعض ما لدى الأقليات هو من الأكثريات، وبعض ما لدى الأكثريات هو من الأقليات. وبالتالي من يبحث عن هوية اصطفائية خالصة فإنه لن يجدها إلا في عالم الذهن والمجردات. على المستوى الواقعي كل المجتمعات العربية تعيش هوية واحدة، وهي هوية مركبة، اشتركت جميع الفئات في بلورتها وصنعها. وهذه من الحقائق الثابتة في المجتمعات العربية قاطبة. وإن التنوع الديني والمذهبي والقومي الذي تحتضنه هذه المجتمعات لم يلغ حقيقة الهوية المركبة التي يعيشها الجميع. فالسني العربي لا يمتلك هوية خالصة متناقضة عن هوية الشيعي العربي أو المسيحي العربي. فالجميع تضمهم هوية واحدة. ووحدة هذه الهوية، لا يعني أنها بسيطة، وإنما هي مركبة ووليدة روافد عديدة. وعليه فإننا نعتقد بأهمية أن تعمل جميع الأقليات في أوطانها، على تظهير بعدها الوطني، وتجسير العلاقة بكل أبعادها مع شركائها في الوطن. وان جميع العقبات التي تعترض تفاعلها واندماجها الوطني، لا يمكن معالجتها إلا على قاعدة وطنية. لمراسلة الكاتب: [email protected]