كنت ارسلت رسالة إلى المخرج العالمي كوستا غافراس قلت له فيها إنني كثيراً ما كنت اراه في باريس، إذ أن المنطقة التي يقيم فيها كانت ضمن المجال الحيوي لتسكعي لسنوات طويلة، وانني كنت على الدوام أرغب في التحدث إليه، ولا أدري لمَ لم أفعل؟ وها انني اكتب من لندن، طالباً موعداً لاجراء مقابلة صحافية قصيرة تتركز حول رأيه بالثقافة العربية. وبعد أسبوعين، وجدت في آلة التسجيل الهاتفية مكالمة من كوستا غافراس تاركاً رقم هاتفه. ولأن الوقت كان متأخراً، فقد سجلت الرقم وحذفت المكالمة من الجهاز. وفي ما بعد ظللت اسبوعاً بأكمله أبحث عن الرقم من دون جدوى. فكتبت له رسالة أخرى: "عزيزي السيد كوستا غافراس، لقد فرحت جداً بموافقتك على اجراء الحوار، وكان في نيتي ان اكلمك هاتفياً لتحديد الموعد، إلا أنني وللأسف أضعت رقم هاتفك، وأنا حائر الآن؟". وذات ظهيرة، اتصل كوستا غافراس وقال ضاحكاً: "هل تستطيع ان تأتي غداً صباحاً، في العاشرة والنصف تماماً"! في الخامسة والربع فجراً، كنت جالساً في قطار "يوروستار" الذاهب إلى باريس، وأنا أقرأ المعلومات التي استخرجتها من "انترنت" حول المخرج كوستا غافراس، وهي تقول: مواليد العام 1933، جاء إلى باريس في نهاية الخمسينات لدراسة الادب ثم قطع دراسته ليتوجه إلى معهد "إيديك" لدراسة السينما. وفي العاشرة والنصف صباحاً شاهدت المخرج كوستا غافراس يوقف سيارته أمام منزله. استقبلني ضاحكاً ورحنا نتحدث في أمور كثيرة حول العالم العربي، وفضيحة مونيكا غيت، ودور الاعلام الأميركي في المسألة. فقلت له إن فيلمه الأخير "مدينة مجنونة" يدين بشدة وسائل الاعلام الأميركية. فقال: "منذ زمن طويل كنت أود أن أعمل فيلماً عن هذه المسألة. وأنا سعيد بهذا الفيلم. وان العمل كان ممتعاً مع داستن هوفمان وجون ترافولتا". ثم حكى عن طرائف كثيرة حصلت أثناء تصوير الفيلم، ثم وضعت أمامه آلة التسجيل ورحت أسأله: جئت من بلادك اليونان إلى باريس في نهاية الخمسينات لتدرس الأدب في السوربون، لكنك فجأة قطعت دراستك لتلتحق بمعهد السينما، لماذا؟ - لأن السينما كانت وما زالت تحتفظ بعلاقتها المباشرة مع ما يجري في المجتمع من أحداث، وأعتقد بأن صنع الأفلام أصبح أكثر سهولة في السنوات الأخيرة. لكن، ولأنني كنت أنتمي إلى بلاد صغيرة كاليونان، لم يخطر لي أن في قدرتي أن أصنع أفلاماً. كنت أعتقد بأن السبيل الوحيد المتاح لي كان الكتابة، أنا أحب الكتابة. وعندما جئت إلى باريس، اكتشفت بأن هناك امكانات متاحة للجميع. السبب الآخر كان وجود مركز السينماتيك في باريس، حيث اكتشفت ان السينما لم تكن فقط ما كنت اراه في اليونان، أي أفلام "الاكشن" والعنف والقتال والجريمة... الخ. اكتشفت السينما الكلاسيكية، ومعنى هذا ان امكانية فعل شيء مختلف تماماً كانت قائمة، فكما ان هناك المسرح الكلاسيكي، كانت هناك السينما الكلاسيكية التي يكتب لها كتّاب كبار. كلا هذين السببين دفعاني للالتحاق بمعهد السينما. عندما كنت في اليونان، هل كنت تحلم بأن تكون كاتباً؟ - نعم. كنت اريد أن أكون كاتباً وما زلت أحب أن اكتب، لقد كتبت سيناريوهات أكثر أفلامي أو شاركت في كتابتها مع آخرين. اعتقد بأن من المهم جداً بالنسبة إلى المخرج ان يكون قادراً على الكتابة، على كتابة الشخصيات والمواقف والحوار... هذا شيء جوهري، لأنك في كل فيلم تصنعه، إن لم تكتب، فقد تبدو كمن يخون كتابة شخص آخر. الكتابة، في واقع الأمر، مهمة في السينما كما هي الصوّر. لقد بدأت اكتب بعض الروايات، لكن كان عليّ أن أتوقف لأن السينما تأخذ وقتاً كبيراً. إن خلفيتي الأدبية مهمة جداً بالنسبة إليّ. عندما كنت شاباً قرأت الكثير من الكتّاب الأميركيين وبعض الكتّاب الكلاسيكيين الروس. اذكر ان أول رواية أميركية قرأتها كانت "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، وبعد ذلك غوركي ودوستويفسكي وتشيخوف. ومن الكتّاب الفرنسيين بلزاك وستاندال على رغم ان هذا الأخير كان معقداً جداً بالنسبة إلى اليونانيين. بالطبع، قرأت كل هؤلاء مترجمين، وفي ذلك الوقت كانوا يترجمون الأعمال المهمة جداً فقط، حسناً، لا اقصد الأعمال المهمة، بل تلك المعروفة جيداً والناجحة تجارياً. وهكذا فأنا حقاً اكتشفت الأدب هنا في فرنسا. أود أن تخبرني ماذا قرأت من الأدب العربي؟ - ما قرأته قليل جداً. نحن نعرف الكتّاب المغاربة والجزائريين وبعض المصريين، لكن كتّاب البلدان الأخرى لا وجود لهم بسبب قلة الترجمة. لقد قرأت جميع كتب طاهر بن جلون. إنه صديق لي، وقد كتب أشياء كبيرة، ومع أنه يعيش في فرنسا ويكتب بالفرنسية، فهو يخترق الروح الريفية العربية بعمق، ويتحدث عما يجري، عن الأناس البسطاء وحكاياتهم ومشاكلهم. اعتقد بأن هذا شيء خارق. قرأت رشيد بوجدرة وكذلك السوري سليم بركات، وبعض روايات نجيب محفوظ قبل ان يحصل على جائزة نوبل. محفوظ كاتب كبير حقاً، على أنه، بالنسبة إليّ، ينتمي إلى حقبة أخرى، إلى مدرسة أخرى، ولا أريد ان اكون انتقادياً ولكن جيلي يعرف تلك الفترة. اريد اليوم أن أعرف أكثر عن الجيل الشاب في العالم وكيف يشعرون. نحن في فرنسا لا نتحدث كثيراً عن الشباب الصغار. هناك، في كل مكان، نقص في معرفتنا عنهم، عن طريقة تصورهم للأشياء، وعن مشاعرهم. اعتقد، أخيراً، بأن الأدب هو النافذة الوحيدة المفتوحة على العالم العربي، على رغم قلة الترجمات. ومن سوء الحظ ان السينما العربية اعطتنا أفلاماً قليلة وهي ليست مثل الأفلام الفرنسية أو الأوروبية التي تتفتح على الحياة اليومية - على الوجوه، والشوارع والناس - أكثر مما يفعل الأدب. فرغم الصعوبات التقنية، وأحياناً الفنية، الكامنة في صناعة السينما، يمكنك ان ترى كيف يعيش الناس، كيف يتدبرون حياتهم، وهذا شيء يهمني جداً. أحياناً يكفي أن تقرأ كتابين أو ثلاثة لتأخذ فكرة عامة. مثلاً، أحب شعر محمود درويش، لأنك تستطيع ان تراه في قصائده، وأن ترى شعبه وتعرف مشاكلهم. أنا من المعجبين جداً بشعر محمود درويش. آمل أن يقبض الكتّاب العرب على الحياة اليومية. أنا عندما أذهب إلى المغرب أو إلى مصر مثلاً ألاحظ الناس في الشوارع وأتملى حركاتهم، وكيف يتكلمون. أحب أن أرى الشيء نفسه في الادب العربي أو السينما. لقد جاءتني في الفترة الأخيرة بعض الأعداد من مجلة "بانيبال" الانكليزية المختصة بالأدب العربي. وقد استمتعت بقراءة العديد من القصص والقصائد وباللقاءين مع سركون بولص وأدونيس. وأتمنى ان أعثر على المزيد من كتب هؤلاء الشعراء والكتّاب الشباب. وعلى ذكر ادونيس، اخبرني صديقي اريك رولو أنه شاعر كبير وأن عليّ ان أقرأه، لكنني عندما وجدت بعض الوقت وذهبت إلى المكتبات باحثاً عن كتب لأدونيس، لم أجد شيئاً. لنتحدث عن السينما العربية، ما الأفلام التي رأيتها وما رأيك فيها؟ - هناك بعض الأفلام الوثائقية القوية جداً. إن بعض فناني الجيل الجديد يفلحون في اختراق موضوعاتهم بواسطة عدد قليل من الصور. لكن فيلم "ناصر" شيء آخر. اعتقد بأن المزج الذي حدث في إعادة تركيب أدوار الممثلين والوثائق الحقيقية لم يكن جيداً جداً، ان الفيلم الوثائقي الحقيقي يمكنه ان يسرد قصة من دون ان يلجأ إلى مزج الواقع والخيال بهذا الشكل. نحب ان نرى فيلماً وثائقياً طويلاً ومفصلاً عن ناصر، فيلماً يتضمن كل الأحداث التي تروي تاريخاً، أي القصة كلها. في مهرجان السينما العربية الذي اقيم في معهد العالم العربي بباريس هذا الصيف، شاهدت أفلاماً عدة بينها واحد من لبنان واثنان من العراق وواحد من فلسطين واثنان من مصر وواحد من الجزائر، إضافة إلى أفلام أخرى. اعتقادي هو انه لكي تكون هناك سينما جيدة، ينبغي الاعداد والتأسيس لسينما قومية، وعند ذلك سوف تتحسن تدريجاً ومع مرور الوقت طالما ان السينما تحتاج إلى تراث وإلى تعضيد من الدولة. في عالم نرى جميعاً البرامج نفسها على التلفزيون، لا بد من تشجيع النتاج القومي الذي يعالج مواضيع محلية، لا بد من تقديم المعونة له. على ذكر الواقع والخيال، هل شاهدت فيلم "المصير"؟ - لقد قضى يوسف شاهين سنوات طويلة في ممارسة الفن السينمائي، وهو يصنع أفلاماً مهمة. إنه يعتبر النموذج الأفضل الذي يمثل السينما العربية في العالم اليوم. "المصير" فيلم مثير للاهتمام لأنه نوع من "الثريلر" الفيلم التشويقي بأسلوب تلك اللوحات الشرقية العظيمة. اعتقد بأنه فيلم رائع لأنه ليس واقعياً بشكل حرفي، بل له اسلوب ويقول الكثير عن الإسلام. كنت نتحدث من قبل عن ايجاد طريقة صالحة لسرد قصة ناصر، وها هو يوسف شاهين يجد الطريقة ليقول شيئاً عن ابن رشد بواسطة اسلوب فريد من نوعه، له القدرة على النجاح تجارياً ولدى الجمهور في الوقت نفسه. هل تعتقد بأنك ذات يوم قد تخرج فيلماً مأخوذاً من رواية لكاتب عربي أو أي كاتب آخر يتناول العالم العربي؟ - نعم، بالتأكيد، إذا وجدت القصة. عندما أخرجت "حنةپك" اشتغلت مع الفلسطينيين لكي أجد الطريقة الصحيحة في التعامل مع معاناتهم. اعتقد بأن "حنةپك" اغضب كثيراً من اصدقائك، خصوصاً في فرنسا، هل هذا صحيح؟ - نعم، هذا صحيح. اغضب الكثير من أصدقائي في ذلك الوقت. لكن الجميع في هذه الأيام يتفقون طبعاً على ضرورة القبول بالسلام، وضرورة حصول الفلسطينيين على حريتهم وبلادهم. الفيلم لا يقول أكثر من هذا. ومن المدهش ان هذا الفيلم قبل عشر سنوات، قال تقريباً ما قاله رابين قبل أن يُقتل. الواحد يتأسف لأن العالم، والمجتمع اليهودي خارج إسرائيل، لم يكن لهم مثل هذا الموقف الذي يقفونه اليوم منذ عشر أو خمس عشرة سنة، كانت الأمور ستسير نحو الأفضل، وعدد البشر الذين لاقوا حتفهم أقل. كيف خطرت لك فكرة هذا الفيلم؟ ولماذا قمت باخراجه؟ - جاءت فكرة "حنةپك" عن طريق صديقة فلسطينية، سيدة اسمها عبير، اعتادت أن تأتي إليّ وإلى صديقي فرانكو ساليناس طيلة سنوات وتقول: "لماذا لا تفعلان شيئاً بصدد الفلسطينيين؟"، كنا نجيب ان المشكلة شديدة التعقيد، ولكنني بعد ذلك قمت برحلة استطلاع مع فرانكو، وتجولنا واستطلعنا ثم عدنا وكان من الصعب حقاً أن نجد الثيمة. وعادت عبير لتسألنا متى نفعل ذلك؟ وآنذاك فكرنا: لماذا لا نتعامل مع شخصية مثلها تقدم نفسها، مرة بعد أخرى، كما كان يفعل الفلسطينيون في بحثهم عن بيوتهم؟ هكذا وجدنا الثيمة، ثم كتبنا السيناريو، فرانكو وأنا، وصنعنا الفيلم. "حنةپك" ليس عن الارهاب، بل عن رجل له مشكلة وهو يقدم مشكلته مرة بعد أخرى بإصرار وإلحاح سواء قبلت أنت بذلك أم لم تقبل. وفي النهاية يحدث الشيء نفسه الذي حدث عند الفلسطينيين: فبعد ان قدموا مشكلتهم المرة تلو المرة، أصبح الجميع يفهمونها، وقد قبل بها الجميع... الجميع تقريباً! عندما عملت "صندوق الموسيقى" قال بعض النقاد العرب إنك فعلت ذلك كردة فعل على "حنةپك" لترضي اصدقاءك الغاضبين؟ - أعرف أنهم قالوا هذا. بعث لي صديق صحيفة مصرية وأخبرني بهذه المسألة. إنه شيء في منتهى السخف. لكنني لا اعتقد بأن العرب ينكرون ان اليهود عانوا ما عانوه على أيدي النازيين. لا يمكننا ان نخلط ما يحدث اليوم للإسرائيليين والفلسطينيين بما حدث في الاربعينات لليهود. إنهما مشكلتان مختلفتان. على نقادي المصريين ان يفهموا انني اصنع أفلامي لأنني أريد ان اصنعها من دون أن أكون مضطراً لمراضاة أحد. قررت ان عمل "صندوق الموسيقى" بعد أن تلقيت السيناريو من "جوي استرهاوز" اعجبني السيناريو لأن للقصة فيه مستويين: النازي واليهودي، وهي مشكلة تتعلق بالكل. ولكن أيضاً، ماذا تفعل إذا عرفت شيئاً عن أبيك. إنه فاشي مثلاً؟ هل نعرف من هم آباؤنا؟ وماذا يحدث لعلاقتنا بهم إذا عرفنا كل شيء عن حياتهم؟ ماذا يحدث لي أو لأبنائي إذا عرفوا كل شيء عني؟ إذا كانوا يعتقدون بأنني عملت "صندوق الموسيقى" لإرضاء اصدقائي اليهود أو الفرنسيين، فإن عليهم ان يعتقدوا بأنني عملت "حنةپك" لإرضاء اصدقائي العرب. كنت شاباً في العام 1969 حين اخرجت فيلم z الذي حصل على ثلاث جوائز أوسكار، من ضمنها أفضل فيلم أجنبي، كما حزت بواسطته على شهرة عالمية، كنت أود أن أعرف كيف جاءتك فكرة الفيلم؟ - يعود الفضل للكولونيلات يضحك كان أخي يعرف فاسيليس فاسيليكوس مؤلف الكتاب، وبعث إليّ بنسخة. اعجبني حقاً، وعندما قررت أن أعمله فيلماً، واجهتني صعوبات كثيرة. لن تصدق كم كان من الصعب ان أجد مكاناً لتصوير الفيلم z لولا مساعدة الجزائريين، لكان الأمر مستحيلاً، وهذه فرصة طيبة لأقدم لهم شكري. اريد أن أقول شكراً للجزائريين وشكراً للممثل الفرنسي جاك بيران الذي كان له أصدقاء طيبون كهؤلاء في الجزائر. وشكري الجزيل إلى السيد بن يحيى الذي كان وزير الاعلام آنذاك والذي قال لي ان آتي إلى الجزائر وأصور الفيلم هناك، وإذا احتجت إلى أي شيء فهو سيساعدني. عندما ذهبت إلى هناك ورأيت البلد، قلت: أجل، سنصوّر الفيلم هنا. أخيراً هناك الموسيقى العربية، هل تسمعها؟ هل تحبها؟ - بالطبع مئة في المئة، أحب وناس معطوب المغني الجزائري الذي اغتيل أخيراً في الجزائر، وأحب الشاب خالد، انه موسيقي مذهل. وأنا أحب العود، العود الكلاسيكي كما يعزفه منير بشير مثلاً. وكم هو مدهش ان اسمع أم كلثوم. تعجبني الطريقة العربية في التوزيع الاوركسترالي، فهي حديثة في استعمالها للكمانات، وللكورس الجماعي. رأيت أم كلثوم ذات مرة، في قاعة "الأولمبيا" هنا في باريس. كانت أمسية رائعة استمرت حتى الساعة الثانية بعد منتصف الليل. لقد استمتعت بها تماماً. الموسيقى اللبنانية أيضاً معروفة لديّ، على رغم انها تغدو سطحية أحياناً في اعتقادي، لكن فيروز دائماً عظيمة. وأنا مهتم جداً بالموسيقى الجزائرية الشابة، موسيقى الراي، انها صرخة جزائر على وشك الولادة.