تجلس المرأة الفنلندية مرتاحة البال وهانئة الخاطر بالمكانة التي وصلت اليها. فوزيرة الدفاع الفنلندية في مكتبها تتكتك لشؤون الجيش، وتجول وزيرة الخارجية أرجاء المعمورة ممثلة لحكومة بلدها، وترأس متحدثة البرلمان جلسات عاصفة يحضرها ممثلو نحو عشرة أحزاب مختلفة، وآلاف النساء يحتللن أرفع المناصب في الشركات والمؤسسات، وأصعب المهن بما فيها عاملات بناء وتشييد. وأغلب الظن أن أية امرأة في العالم - شرقية كانت أو غربية - تتعرف عن كثب الى وضع المرأة في فنلندا ستشعر بنوع من الغيرة وتتمنى لو حققت جانباً مما حققته الفنلندية. ورحلة المرأة الفنلندية لم تبدأ بالأمس، بل هي حققت أولى خطوات إثبات الذات منذ ما يزيد على نصف القرن. ففي العام 1864 حصلت النساء غير المتزوجات على حق التصرف في دخولهن في سن الخامسة عشرة، وحق التصرف في أملاكهن في سن الحادية والعشرين، وتحدد لهن سن الرشد ب 25 عاماً. وفي العام 1870 كانت ماريا تشوتسولين الفنلندية الأولى التي تجتاز امتحان القبول في الجامعة، وسُمح للنساء بالانضمام الى الجامعات بعد الحصول على إذن خاص، وأُلغي ذلك إلاذن في العام التالي. وفي العام 1878 حازت روزينا هينكل على درجة الليسانس في الطب لتصبح بذلك الاسكندينافية الأولى التي تحمل هذه الدرجة 60 في المئة من أطباء فنلندا حالياً نساء. وأصبحت فنلندا في العام 1906 الدولة الأولى في العالم التي تمنح نساءها حق التصويت في الانتخابات، وتكلل ذلك بصدور قانون الزواج في العام 1930 الذي ساوى بين الزوجين. وتلاحقت القوانين التي تنص على المساواة في الأجور والمعاملة في العمل بين الجنسين. ووصل الأمر لدرجة السماح للأطفال باستخدام اسم العائلة الخاص بأمه أو بأبيه. وكأن الفنلنديات لم يحصلن على حقوقهن كاملة في كل المجالات، حتى سمح لهن بالانضمام الى الكنيسة باعتبارهن سيدات دين على غرار رجال الدين، وذلك في الكنيسة الانغليكانية اللوثرية. وهدمت المرأة الفنلندية الحصن الأخير الذي لم يكن مسموحاً لها باقتحامه، فسمح لها بالخدمة الطوعية في الجيش، ابتداء من العام 1995. وعلى رغم أنها كانت اقتحمت كل مجال من مجالات الحياة العملية، وشغلت ما يقرب من نصف المناصب مناصفة مع الرجال، إلا أن تعديلاً طرأ على قوانين المساواة بين الرجل والمرأة في العمل في العام نفسه، ليحدد نسبة النساء في المجالس والإدارات البلدية واللجان الحكومية ب 40 في المئة. أما في البرلمان، فيبدو أن المرأة الفنلندية لم تكن في حاجة الى تشريع لتحصل على حقها، إذ حصلت عليه بيديها. ففي العام 1991، دخلت البرلمان 77 سيدة من مجموع 200 عضو برلمان، وكان هذا رقماً قياسياً، ما دعاهن الى تأسيس شبكة للنساء الفنلنديات عضوات البرلمان وهي تُعنى ببحث كل ما يتعلق بالمرأة من حقوق وتحقيق المساواة، وكذلك تقديم منظور نسائي للعمل التشريعي بوجه عام. وهذه نقطة بالغة الأهمية، فالمرأة الفنلندية تؤمن إيماناً عميقاً وراسخاً بمساواتها مع الرجل، إلا أنها في الوقت نفسه تؤمن أن للنساء طريقة خاصة بهن في التخطيط والتنفيذ. وهذه الطريقة ليست أفضل ولا أسوأ من طريقة الرجل، ولكنها تحقق الهدف نفسه. ومع أن عدد عضوات البرلمان انخفض في انتخابات العام 1995 الى 67 عضوة، إلا أن هدف النساء هو أن تكون عضوية البرلمان مناصفة بينهن والرجال. وحتى لو لم يتحقق ذلك، فإن الارقام الأخرى تتحدث عن نفسها ببلاغة. فمن بين أعضاء الحكومة ال 11 الحالية، توجد سبع نساء. كما أن عدداً من قيادات الأحزاب من النساء و60 في المئة من الأطباء نساء. ونحن نضمن لك أنك لن تدخل وزارة أو شركة أو محلاً تجارياً أو فندقاً، إلا ووجدت النساء يحتللن على الأقل 50 في المئة من المناصب. وفي خضم هذا الانجاز العملي، لم تنس الوزيرة والمديرة العاملة أنوثتها. فها هي وزيرة الدفاع آنلي تاينا امرأة جميلة جداً، بالغة الاناقة من دون تعقيد ومستخدمة لأدوات التجميل من دون مبالغة. أما رئيسة البرلمان ريتا أوسكاينن، هذه الشخصية الحديدية التي تهوى بل "تستمتع" - على حد قولها - بإدارة جلسات البرلمان العاصفة، فلا يفوتها أن تعلق على نوعية القماش الجيدة والموديل الأنيق للفستان الذي ترتديه ضيفتها الصحافية. وفي الوقت الذي يصر الرجل الشرقي - قبل مخاطبة أية سيدة - أن يسألها: "آنسة أم مدام"، وفي الوقت الذي توصلت دول مثل انكلترا الى تخطي الاحراج بابتكار لقب MS للابتعاد عن كل من MISS و MRS، ألغت فنلندا المشكلة برمتها، إذ أن التخاطب يكون على اساس المهنة، فهذه السكرتيرة فلانة، أو المديرة فلانة. ونسبة كبيرة من الفنلنديات لا تنجب طفلها الأول قبل سن الثلاثين، وذلك لاتجاه أعداد متزايدة منهن الى قضاء وقت أطول في التعليم وتثبيت أقدامهن في المجال العملي قبل التفكير في تكوين أسرة. ومعدل الإنجاب حالياً أقل من طفلين للمرأة الواحدة تحديداً 86،1 طفل للمرأة. إلا أن نسب الطلاق في ارتفاع دائم، كذلك عدد الأسر ذات العائل الواحد. وعى رغم الاتجاه المتزايد في السنوات الأخيرة الى إبرام الزيجات مدنياً بعيداً عن الكنيسة، إلا أن عدداً كبيراً من السيدات اللاتي تحدثن الى "الحياة" أكدن أن هناك اتجاهاً حديثاً للعودة الى الزواج في الكنيسة، وعموماً فإن كلا النوعين يخضع للقوانين نفسها. ومع هذا القدر من المساواة الذي تحسد عليه المرأة الفنلندية فإن القوانين لم تغفل طبيعتها أيضاً. فهناك قانون يمنع عمل المرأة ليلاً، ويضمن للمرأة العاملة الحامل كل حقوقها لدرجة أنه يعطيها الحق في الحصول على إجازة وضع قبل موعد الولادة بأشهر اذا كان عملها يعرضها أو جنينها لأي نوع من الخطر. كما تضمن القوانين إجازات أمومة أو أبوة أو كليهما مجموعها 263 يوم عمل بعد ولادة الطفل، ويمكن للأبوين تقسيم هذه الإجازة بينهما، ويحق لهما الحصول على مساعدة مالية أثناءها. وعلى رغم أن كل طفل دون سن الثالثة يحق له التمتع بمكان في إحدى دور الحضانة إلا أن هذا النظام لا يسري على الاطفال بين الرابعة والسابعة من العمر، ما يعني أن أسراً كثيرة تعاني مشكلة في هذا المجال. ومع ذلك يبدو أن النساء الفنلنديات دائماً ما يجدن طريقة ما للتغلب على مثل هذه المشاكل من دون تعطيل لأعمالهن. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن مديرة التسويق في المجلس السياحي الفنلندي أشبه بوزارة السياحة السيدة مارينا كراوز لديها ثلاثة أطفال ولم يعطلوا مسيرتها في الترقي. أما مديرة القسم الدولي في مؤسسة الفيلم الفنلندي السيدة كيرسي تيكيلاينن فلديها أربعة أبناء، وتؤكد أنهم لم يعرقلوا حياتها العملية. إلا أن الصورة الوردية لوضع المرأة في فنلندا لا تخلو من قتامة، فنسبة الانتحار مرتفعة، كما أن الفنلنديين عموماً - رجالاً ونساءً - يقبلون على شرب الخمور بدرجة تتعدى في كثير من الأحيان الحد المعقول. ويمكن للزائر حين يطل من نافذة فندقه في وسط هلسنكي حتى وقت متأخر من الليل أن يرى حركة الزبائن منتعشة في البارات، وذلك في أي يوم من أيام الأسبوع وليس في العطلات فقط! اما في العمل، فعلى رغم أن ما يزيد على 50 في المئة من حاملي شهادة إتمام التعليم الثانوي والشهادات الجامعية من النساء، ومع أن النساء الفنلنديات اكثر علماً من الرجال ويشكلن نصف القوى العاملة في البلاد، إلا أن رواتبهن تبلغ نحو 78 في المئة من رواتب الرجال في المناصب نفسها. وهو ما يعمل الكثير من المنظمات النسائية على تحقيق قدر أكبر من المساواة فيه. وفي النهاية لا يسعنا سوى أن نشيد بموقف الرجل الفنلندي الذي لم يسمح لرجولته بأن تقف حجر عثرة على طريق تحرر المرأة. فمثلاً حين قال رجل فنلندي في مناسبة اجتماعية إن هناك اتجاهاً متزايداً بين الرجال الفنلنديين للزواج من روسيات "لأنهن ربات بيوت ماهرات ومطيعات لأزواجهن"، وجد نفسه يسارع بالاعتذار عما بدر منه من سخافة، مؤكداً أنها مجرد دعابة! ويكفي أن متوسط عمر المرأة في فنلندا 80 عاماً، في حين أن متوسط عمر الرجل 73 عاماً فقط، وهو فارق كبير بينهما. ويفسر البعض - من الرجال طبعاً - ذلك بأن النساء يسئن استخدام الرجال في الاعمال المنزلية وخلافه. وسواء كانت هذه دعابة أم لا، فالمؤكد أن "رقص التانغو يحتاج الى شخصين" وحصول المرأة على كامل حقوقها يحتاج الى تأييد الرجل!