لم أكن يوماً «نسويّة» (feminist) وفقاً للمصطلح الذي أُطلقَ فرنسياً منذ القرن التاسع عشر على الناشطين والناشطات في قضية المساواة في الحقوق بين المرأة والرجل. لم أكن يوماً نسويّة، ليس فقط لأنني لم أنشطْ كفايةً في هذا المجال، وإنما لأنني لا أحبّذ المصطلح الذي دعت مجلة «تايم» الأميركية في العام 2015 إلى إلغائه قبل أن تعود وتعتذر من قرائها إثر حملة شنّتها مجموعات نسوية ضد المجلة. وذلك لأن المصطلح، باعتقادي، يوحي بتصنيفٍ وفئوية ما ويجنح استطراداً إلى الإقصاء. لأنه يقول «أنا مع [حقوق] النساء [خصوصاً وأولاً]» ويجزّئ قضية مناهضة كل أشكال التمييز ضد الإنسان بسبب الجندر واللون والإثنية والدين والرأي وغير ذلك. ولأنّ بعض النسويّات، باعتقادي، وقعنَ في الشطط حين سطّحنَ القضية إلى معركةٍ بين الرجل والمرأة فيما أنها معركةٌ من أجل الإنسان بمختلف جندراته. ولعلّي أغالي. لعلّ القضية تحتاج إلى تخصيصٍ مثل كلّ ما في عصرنا. ولعلّي أتهرب من التصنيف، أو المظلومية. لستُ نسويّة، ولكنني بالتأكيد ضد كل أشكال التمييز ضد المرأة. وأنا أدركُ أنني مواطنةٌ من درجةٍ ثانية في بلدٍ يتوخى الحداثة في الشكل ويُسقطها في المضمون. أقولُ إنني مواطنة من درجة ثانية لأن القوانين في لبنان، على رغم تطورٍ ملموس تمّ إحرازه في السنوات الأخيرة (تعديل قانون العقوبات واستحداث قانون الحماية من العنف الأسري)، لم تزلْ حتى اليوم تميّز بيني وبين رفيقي في المواطنة في حقوقٍ لصيقة بالإنسان كالجنسية والزواج والعمل والسياسة فيما تطالبنا بموجباتٍ متساوية. ولأنّني مواطنة في بلدٍ سبقَ كل البلدان العربية في تكريس حقّ المرأة في المشاركة السياسية اقتراعاً وترشحاً العام 1952، غير أنه تأخّر عن أغلبها في تمكين المرأة سياسياً، حيث لم يتسنّ لنسائه حتى اليوم المشاركة في شكل أصيل في صناعة سياسته. ولأن بلدي مصنّف في أدنى المراتب عالمياً (المرتبة 177/191) لجهة التمثيل السياسي للمرأة، وهو لم يسبق في ذلك سوى 12 دولة من دول العالم، بينها خمسُ دولٍ عربية (جزر القمر والكويت وسلطنة عُمان وقطر واليمن) وسبعُ دولٍ لم تدخل برلماناتها امرأةٌ قط. ولأن النساء في بلدي لم يصلنَ إلى برلمانه سوى فوق جثث ذكورٍ من أصولهن أو فروعهن. القيادية النسائية إن الازدواجية الظالمة التي يتمّ بموجبها حكمُ (ومحاكمة) النساء من المواطنين بتطبيقِ قوانينَ لا يشاركن في سنّها هي تماماً مثل الغبن الذي يصيبُ إثنيةً أو طائفةً مُستبعدة من الحكم. ولا يمكنُ أن تستوي المشاركة السياسية بمجرّد الانتخاب، وإنما بالتمثيل خصوصاً. تتجاوز مشاركة المرأة في صناعة السياسة مبدأ المساواة في الحقوق والتمثيل إلى نظرية مهمة مفادها أن السياسة لا يمكن أن تتوازن وتزدهر من دون أنوثة، أسوةً بالوحدة الأصغر في الدولة - أي الأسرة. لقد أظهرت دراسات عدة تناولت آثار القيادة السياسية للمرأة على ازدهار الدول تقدماً في التشريع والتطبيق المتعلق بحقوق وحماية النساء والأطفال وفرص نموّهم، بل تراجعاً نسبياً في الفساد الإداري والسياسي. إذ خلصت دراسة صدرت عن «مركز النموّ العالمي» في العام 2013 إلى أن تمثيل النساء في المجالس المحلية والبرلمان في الهند بنسب تراوحت بين 30 و50 في المئة أدى إلى تراجعٍ مطرد في معدلات الفساد وخصوصاً في المناطق الريفية. كما خلصت دراسة أسبق نشرتها جمعية «المركز الأفريقي للمرأة والطفل» في العام 2010 إلى أن ازدياد نسبة التمثيل السياسي للمرأة في شرق أفريقيا (أوغندا وتانزانيا وكينيا والسودان وراواندا) حسّن الأوضاع القانونية والاجتماعية والاقتصادية لنساء هذه الدول. وأظهرت دراسة ثالثة صدرت في العام 2013 عن «سكرتارية دول الكومنولث» إلى أن تطبيق نظام الكوتا الجندرية رفع الناتج المحلي الإجمالي في دول الهند (27 في المئة) وجنوب أفريقيا (10 في المئة) وبريطانيا (5 في المئة). وحلّلت هذه الدراسة مستندةً إلى عشرات الأبحاث النفسية والاجتماعية والاقتصادية الفوارق الجندرية في الأساليب القيادية بين الرجل والمرأة لتخلص إلى أن المرأة بطبيعتها متقدّمة على الرجل في مهارات التواصل وأكثر تعاوناً وتشجيعاً لمرؤوسيها وأقل جنوحاً إلى المراوغة والتسلط والتهوّر، وبأن الأفكار النمطية الخاطئة لأوصاف القائد التي تمحورت حول «الحزم» روّج لها وكرّسها تاريخياً الرجال، ما جعل مفهومَ «القيادية» فائضَ الذكورة وناقصَ الأنوثة. أكثر من ذلك، خلصت أحدث الأبحاث التي تناولت الفوارق الجندرية في علم النفس السياسي إلى أن التمثيل السياسي المتوازن جندرياً من شأنه أن يحسرَ العنف ويجعل العالم أكثر سلاماً. وبين هذه الأبحاث كتاب صدر في العام 2011 للأستاذ في جامعة هارفرد ستيفن بينكر بعنوان «الملائكة الأفضل في طبيعتنا» كتبَ فيه: «على مرّ التاريخ، كانت النساء وسيبقين قوة تهدئة. الحربُ التقليدية هي لعبةُ الرجل: نساءُ القبائل لم يحشدنَ أنفسهن قط لشنّ غارات على القرى المجاورة لهنّ». وتحليلُ ذلك أن النساء كأمهات يحملنَ في جيناتهن حوافزَ تطورية أقوى للحفاظ على الظروف السلمية المواتية لرعاية ذرّيتهن، عدا أنّ النساء والأطفال يمثلون الشريحة الأكبر من ضحايا النزاعات المسلحة (75 في المئة من مجموع اللاجئين والنازحين في العالم). وأكدت دراسة أخرى نشرتها الباحثة الأميركية في إدارة النزاعات لوريل ستون في العام 2014 بعنوان «هل يُمكن النساء أن يجعلن العالم أكثر سلاماً؟» أن القيادية النسائية قادرة على زيادة فرص إنهاء العنف بنسبة 24 في المئة خلال العام الأول من حُكمها. واستهجنت لوريل كيف تشارك النساء بنسبة لا تزيد على 4 في المئة في مفاوضات السلام حول العالم، فيما أن معظم ضحايا الحروب الحديثة هم من الأطفال والنساء. خلاصة ما تقدَّم أن مشاركة المرأة في صناعة القرارات السياسية ستبقى الضمانة الأقوى لحماية وازدهار النساء والأطفال واستطراداً لنموّ الشريحة الأوسع من المجتمع، وأن السياسة ستبقى مختلّة من دون مشاركة أصيلة للمرأة. الكوتا الجندرية وفيما يستهجنُ بعض الساسة اللبنانيين الغيارى على «قيمة» المرأة تطبيقَ الكوتا الجندرية بحجة أن على النساءَ إثبات جدارتهن السياسية عفواً لا قسراً، نُقابل هذا الاستهجان بمثلٍه من ساسةِ بلدٍ حُجزَت مقاعدهُم في برلمانه بموجب نظام الكوتا القسريّ عينه، على أساس الدين. فلماذا يجب أن نقلق على غياب حقّ التمثيل السياسي لطائفة دينية فيما يُعاب ذلك على طائفة جندرية مهدورة الحقوق هي الأكبر ديموغرافياً في لبنان (53 في المئة على الأقلّ، ممثلة سياسياً بنسبة 3 في المئة)؟ علماً أن نظام الكوتا الجندرية المقترح لبنانياً منذ العام 2006 نصّ على حجز 30 في المئة من اللوائح الانتخابية (وليس من مقاعد البرلمان) و20 في المئة من مقاعد المجالس البلدية للنساء. ولقد غاب هذا المشروع في سباتٍ عميق منذ إحالته إلى مجلس النواب في العام 2010، أسوةً بمشاريعَ كثيرة لم يتمّ حسمُ منافعها على ما يبدو في حسبانِ نوابِنا العتيدين. وبالحديث عن الاستهجان، كيف لا يستهجنُ هؤلاء الغيارى أن نظام الكوتا الجندرية بأحد شكليه (حجز المقاعد مسبقاً أو حجزها في اللوائح الانتخابية) سمحَ لآلاف النساء في محيطنا العربي اليوم بإشغال 20 في المئة من مقاعد مجلس شورى السعودية (أجل، السعودية)، و31 في المئة من مقاعد برلمان تونس، و25 في المئة من مقاعد برلماني العراق (30 في المئة في كردستان) والسودان، وبين 12- 17 في المئة و25- 30 في المئة من مقاعد البرلمانات والمجالس البلدية، تباعاً، في المغرب ومصر والأردن وفلسطين وليبيا؟ بعضُ هذه الدول العربية بدأ بتطبيق نظام الكوتا الجندرية منذ العام 2003، فيما لا يزال السياسيون في لبنان يُعيبون مجرّد طرحِ المشروع ويتبجّحون بتقدّم لبنان «الحداثة» على محيطه العربي. يجبُ أن نفهم أن الهدف من نظام الكوتا الجندرية ليسَ إعفاءَ النساءِ من الاجتهاد السياسي (وتاريخُ لبنان يزخرُ بنضالِ المرأة حزبياً ونقابياً ومدنياً)، وإنما هو كسرُ الإرث الأبوي المتراكم الذي حرمَ نساءَ الأجيال السابقة من حقّ الاقتراع والترشّح، ولم يزلْ يحرمُ نساءَ اليوم في دول التمييز الجندري، وبينها لبنان، من حقوقٍ وحريات لصيقة بالإنسان كالزواج والتعليم والعمل. إنّ المرأة، بسبب هذا الإرثِ الثقيل الذي أقعدَها سياسياً طيلة الأزمان السابقة، في حاجة إلى ما يشبه العلاج الفيزيائي المكثّف لتأهيلِ سيرورتها. فإما أن يتمّ تعويض الانكفاء السياسي المتراكم هذا بمساعدة نظام الكوتا الذي يكرّس أكثر ما يكرّس ثقة النساء بأنفسهن كصانعات للسياسة، وإما أن ننتظر نصفَ قرنٍ آخر من الزمن لتكونَ اللبنانيات قد جَبرنَ الضررَ بمزيدٍ من المعاناة واستجمعنَ الشجاعة والثقة اللازمتين لخوضِ غمار السياسة من بابها العريض. كمواطنة لبنانيةٍ أختارُ وقفَ المعاناة فوراً وليس بعد نصف قرن، خصوصاً حين يكونُ برلماني الفائض الذكورة قد أسقطَني بكل صفاقةٍ من اعتباراته وحرمَني حقوقاً لصيقة بمواطنيتي لمجرّد أنني امرأة، وعلى رأسها الحقّ بمنح جنسيتي لأسرتي. وكمواطنةٍ لبنانية أختارُ الكوتا الجندرية. وأعتبرُ أن إمعانَ صانعي السياسة في حرمان نساء بلدي من هذه الأداة هو حكمٌ بالإلغاء على أكثر من نصف شعبي. * محامية لبنانية وخبيرة في القانون الدولي العام