تبدأ رواية جمال الغيطاني "حكايات المؤسسة" عن مؤسسة الانتشار العربي في بيروت من حيث تسعى الرواية عادة الى الانتهاء اليه. تنطلق مما هو كليّ وشامل، بحيث لا تحتاج خيوط السرد الى العمل على تأسيسه وتشيده وانما تنسل منه وتمتد وتوغل في مسالك فرعية او تتقاطع وتتشابك، الا انها تبقى مقيدة اليه بشروطه ومحكومة باملاءاته، فنقطة البدء ومحور الحكايات المسرودة في ثنايا هذه الرواية هي "المؤسسة"، أي هذا الشيء القائم على نحو يوحي بأنه تام وبيّن بحيث لا يحتاج الى الآخرين كي يكتشفوه، ويعلنوا عن وجوده. و"المؤسسة" ليست فقط امبراطورية صناعية متعددة الفروع داخل البلاد وخارجها وبالتالي واسعة النفوذ عظيمته، وانما هي اعتى وأرسخ، او كما يوضح الراوي مميزاً الفرق ما بين المؤسسة والمؤسسات الاخرى: "كثيرة هي المنشآت التي يسمونها بالمؤسسات، مثل هذه لا بد من اضافة الصفة او التخصص، فيقال مثلاً مؤسسة الصناعات الغذائية او المؤسسة المالية. وأحياناً يقول المحللون السياسيون وكتّاب الاعمدة الثابتة في الصفحات الداخلية المؤسسة العسكرية او مؤسسة الرئاسة. ولكن اذا ذُكر اسم المؤسسة لا غير فانه يعني ويحدد شيئاً واحداً فقط. انها المؤسسة"، وهي بنظامها التراتبي الهرمي وبآلية عملها البيروقراطية وبأجهزتها الامنية ونفوذها الذي لا يحده حدّ وبما يُحاك في كواليسها من دسائس ويدبر في اروقتها من مؤامرات وتبدو قريبة الشبه بالدولة. بل اننا اذا ما اخذنا في الاعتبار حقيقة امتثالها وتكيفها مع السلطات السياسية التي توالت على البلاد من العهد الملكي الى العهد الراهن، رُجّح لدينا الافتراض بأن المؤسسة هي الدولة نفسها وقد جُردت من الصفة السياسية التي تميّز الدولة عادة عن سائر المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والدينية. البطل الفعلي في الرواية هو المؤسسة، لذلك فمن الطبيعي ان يختزل شخوص الرواية الى مجرد ادوات تخدمها او علامات تدل تخدمها عليها وعلى نفوذها. فلا شخصية تظهر في ميدان الرواية ما لم يربطها رابط بالمؤسسة او ما لم تلعب دوراً يخدمها ان مباشرة او من طريق شخصية وسيطة. وبذلك فان الشخصية الروائية تتحدد من خلال المهمة التي تكلفها بها المؤسسة أو من خلال المنصب الذي تشغله فيها أو العمل الذي تقوم به لمصلحتها او ضدها. بل ان معرفة ادق التفاصيل التي قد تنطوي عليها حياة اي من الشخوص، العامة او الخاصة، وارد للغاية اذا ما كان لها دور في اظهار علاقة الشخصية المعنية بالمؤسسة. فلا تظهر زوجة "البروفسور" مثلاً لأن الرواية تريد اطلاعنا على الحياة الشخصية لهذا الرجل وانما لما يساوره من شكوك تجاه كفاءتها أي زوجته في مجاراة الحياة الاجتماعية التي سينضوي بها اذا ما انتخب رئيساً للمؤسسة. اي ان الزوج لا يتنبه الى حقيقة ما هي عليه زوجته الا من خلال علاقته بالمؤسسة. وليس ثمة شخصية روائية اهم من أخرى الا بمدى قربها أو بعدها عن المؤسسة. فلا حائل يحول دون حصول شخصية هامشية أو عابرة، كالفرّاش مثلاً، على اهتمام عظيم اذا ما حدث ان كان قريباً من الطابق الثاني عشر، أي الطابق الذي يقيم فيه الرئيس. وهي بالتالي لا يمكن ان تختفي من مدار الرواية، على رغم هامشيتها، الا اذا انقطعت صلتها بالمؤسسة. وهذا لا يحدث عادة الا اذا اختفت من الوجود أو تم عزلها وتهميشها. وهكذا تموت شخصية وتجن اخرى وتسجن ثالثة وتهاجر رابعة. فلا وجود موضوعياً للشخصية كإنسان ذي كينونة مستقلة بمعزل عن المؤسسة حتى وان كانت شخصية المؤسس نفسه، والذي لا نعرفه أصلاً الا بكونه المؤسس لهذا الصرح الهائل. فالمؤسسة هي ما يجمع الشخصيات ويفرقها، ما يُملي حضورها واختفاءها. وهذا ما قد يجيز الزعم بأن رواية "حكايات المؤسسة" تنتمي الى ذلك التقليد من الكتابة الحديثة الذي يحاول تصوير ما آل اليه الفرد في ظل طغيان نظام بيروقراطي يختزل الانسان الى اللقب الذي يحمله أو المنصب الذي يشغله غير مميز ما بينه وبين فرد آخر. بل ان الأمر كفيل بأن يحث البعض على تقصي أثر كافكا لا سيما روايته "المحاكمة"، واثر جورج أورويل في رواية "1984"، في هذه الرواية، وهو ما ذهب اليه غافلون من قبل في تناولهم لرواية لا تحمل أمارات بارزة كالتي تحملها هذه الأخيرة. اذ من اليسير ان يسهو المرء عن حقيقة ان ما هو معروف عن المؤسسة هو حصيلة ما يرويه الراوي. فخلافاً للنظام البيروقراطي، في رواية كافكا المذكورة، الذي يكرس حضوره الصارم من خلال المتاهة التي ينتهي اليها جوزيف ك. بطل الرواي، فإن حضور المؤسسة في رواية الغيطاني لا يتجلى الا من خلال ما يسرده الراوي من حكايات، أو ما يذكر من تفاصيل يتناقلها جيل بعد آخر. وبما ان الراوي ينسب غالباً ما يرويه الى مصادر سابقة وغير معصومة، فإن هذا يعني ان ما يرويه قد لا يكون أكثر من اشاعات ملفقة، أي مجرد ضرب من الخيال. ولعل هذا ما يبين مصدر احساس يراود القارئ بأن المؤسسة هي أقرب ما تكون الى عالم أسطوري منها الى مكان واقعي. وحيث ان ما يُروى ليس من الخرافات الشعبية أو الخوارق التي تتجاوز قوانين الطبيعة بشيء، ما خلال حكاية قيام المؤسسة على أرض تعتورها حفرة لا قرار بادياً لها، فإن الاحساس بإسطورية المكان ينمو من خلال الأسلوب الذي يقدم به كمكان لا يعرف عنه الا ما يشيعه أفراد مشكوك بصحة ما يشيعون. أي كمكان لا يمكن بلوغ معرفة حاسمة وبديهية حوله، تماماً كما هي القصور المسكونة بالأشباح أو القلاع المغلقة. الى ذلك ففي الرواية نزوع الى السخرية والتهكم وكأنما ما يروى أمور لا تصدق على نحو يبعث على الضحك. فيسعى الراوي الى ابراز المفارقة بين العظمة والرسوخ الذي تبدو عليه وما بين الأمور المضحكة التي تجري فيها بما يخلخل صورتها الواقعية الصارمة. وحتى لو سلمنا بأن المؤسسة هي الدولة نفسها، على ما سبق الاشارة، أي انها هذا النظام السياسي الفعلي الذي ينتظم المجتمع، فأن ذلك لا يُبطل الاحساس باسطورية المكان. فالرواية في اسطرتها للمؤسسة، انما تسعى الى اظهار الشق الذي يفصل الناس عن الدولة بحيث ان معرفتهم بها لا تزيد عما يُروى ويُشاع كما لو انها جسم منفصل عنهم. ولعل في هذا تفسيراً ملائماً للانذار الذي تطلقه الرواية في النهاية عن خطر يتهدد المؤسسة بالتصدع والانهيار، وهو ما يؤول اليه غالباً الانفصال ما بين الدولة والمجتمع.