في روايته الثالثة بالإنكليزية «كرنفال»، لا يجد الكاتب اللبناني الكندي راوي الحاج ضالته في قصة ينسجها في العوالم السفلية لمدينة لا يسميها، بل في قصص كثيرة تتشابك عند الراوي المتنقل بين عوالم وقصص مختلفة. فالراوي الرئيسي هو سائق تاكسي، والمهنة هذه، كما هو متعارف عليها، تمنح صاحبها مساحة خاصة لمعاينة البشر وحكاياتهم والتلصّص على حياتهم، وهي لا تحتاج مشروعيتها السردية إلا في أن يكون الراوي نفسه هو السائق، والسرد آتٍ منه بحيث تغدو حياة السائق، فلاي، وذاكرته متوازية مع حشد من الحكايا والمصائر التي يرصدها في تجواله وما يتعرض له، مروراً بحكايا سكان العمارة التي يقطن في شقة من شققها. تقوم رواية «كرنفال» ترجمتها إلى العربية ريتا بستاني وصدرت عن (شركة المطبوعات للنشر - بيروت 2014) على الأفكار أولاً، وللشخصيات أن تتحلى بصفات نموذجية في تجسيد أفكار أو مقاربات لهذا العالم، ولعلّ عنوان الرواية وتصديرها بمقطع من كتاب «رابليه وعالمه» يضعنا في بحث عن تجليات «الكرنفال» كما قدمه ميخائيل باختين في ذاك الكتاب، بوصفه جسداً اجتماعياً طليقاً. ولن يكون في رواية الحاج أي مواجهة «ستالينية» كما هي الحال لدى باختين، بل مواجهة رأسمالية تطحن الإنسان، وتضع شخصيات الرواية، لا سيما فلاي وأتو، في مجابهة مع المستقرّ والمتفق عليه، والبحث عما هو مغاير وحر. يظهر الكرنفال ويغيب كما الشخصيات التي تتناوب على التاكسي في رواية الحاج، ولا يبقى منه - وفق باختين - إلا الرهان على استعادة «ضحك غابر» في مجابهة العقلانية الباردة للعصر الحديث،. ضحك سرعان ما ينجرف ويقع في فخ الأسى، فيتجمّد من برودة الحياة نفسها التي يرصدها الحاج. سيكون التأطير الفكري للشخصيات على أشده، إضافة إلى الإصرار على غرائبيتها مهما كلّف ذلك. وفي هذا استكمال لما بدأه الحاج في روايته السابقة «صرصار» (2008)، بحيث يتحول بطل الرواية، الذي لا اسم له، إلى صرصار في النهاية على هدى كافكا، بينما تطحن الآلة الرأسمالية الشخصيات في «كرنفال» كما لو أنهم في «مستعمرة العقوبات». لن يتحول فلاي إلى صرصار في «كرنفال» ولن يفعل مثل جورج في الحرب الأهلية اللبنانية كما في «لعبة دي نيرو» (أولى روايات الحاج، 2006). وهو لن يكون أيضاً ابناً لعالمين بالمعنى الفاقع، بل ابن عوالم متشعبة ومتداخلة وملونة بألوان السيرك الذي ولد فيه لأم راقصة على الحبال وأب حطّ رحاله في «الغرب» على متن بساط سحري، ولتتولى رعايته من تحمل (يحمل) لقب «السيدة الملتحية»، ومع ذلك لن تكون ثنائية غرب/ شرق غائبة تماماً، طالما أن والده هجره مع أمه بمجرد أن صار البساط السحري سجادة صلاة: «ارتدى والدي ثيابه القديمة، أسرج جمله، وطوى بساطاً لا يطير وهجرنا». كذلك الأمر بالنسبة إلى جارته المصرية زينب، التي تدرس العلوم الإسلامية ويتعرّف من خلالها إلى كتب الغزالي ومحمد عبده، ويخوض معها نقاشات كثيرة عن علاقة بالإيمان والإلحاد، هو الملحد، المهووس بالكتب، القارئ النهم الذي يجد العالم - كل العالم - بين دفتي الكتاب. بينما لا يتجاوز عالمه خارج الكتب مجتمع سائقي التاكسي ومن يُصادفهم في عمله، مثلما هي الحال مع تاجر المخدرات الذي يستخدمه في تنقلاته، بنت الليل والقوّاد وابنهما، راقصة التعري التي تقدم خدماتها بأسعار مخفضة لعمّال مسلخ في قرية نائية، وصولاً إلى أوتو الذي يحضر في شكل أساسي في الرواية. إنه يساري وناشط سياسي يجتمع عليه كل من يناهضهم، فيُودع في مستشفى للأمراض العقلية، ومع خروجه منها يتحول إلى إنسان محطّم يمضي قدماً نحو مصيره المأساوي في نهاية الرواية،. وبعد أن يقوما هو وفلاي بحملة انتقام من الطبيب الذي اضطهده في المستشفى، ومن زوج امرأة اسمها ماري تكون مهووسة بالقراءة لكنّ زوجها يكره القراءة، فيُجبرهما على قراءة مقاطع من كتب بصوت عالٍ تحت التهديد، وهما متنكران بلباس المهرجين. لكنّ أوتو يُقدم أيضاً على قتل صحافي فرنسي كما هي حال ميرسو في رواية «الغريب»، إنما الأمر معكوساً هذه المرة. فهو يخضع لمشاعر شبيهة بتلك التي تنال من ميرسو جراء الشمس الحارقة، لكنّ المقتول هذه المرة فرنسي وليس جزائرياً، والسبب خلاف أوتو مع ذلك الصحافي على أن كامو «سافل باعتبار أنه كان مع القوى الاستعمارية». ورغم أن النهج الانتقامي المعتمد على القراءة يوحي بأنه خط سردي ماضٍ إلى النهاية، تُطالعنا الرواية في فصلها الخامس والأخير على مزيد من الجرائم، في تصعيد للعنف إلى أقصاه. فيطاول القتل الجميع، من سائقي التاكسي إلى الطبيب النفسي وآخرين، ليبقى فلاي هو الناجي الوحيد من هذا المصير. «الكرنفال» عند راوي الحاج ليس احتفالياً إذاً، ولا يتم تفكيك الخطاب السلطوي من خلال الكرنفال، بل من خلال شخصيات الرواية التي يلقى عليها هذا الفعل، بوصفها شخصيات هامشية تجد مجالها الحيوي في عوالم سفلية. وإن كان من ثورية ما يجسدها أوتو، فهي سرعان ما تغرق في الفوضوية وتتخبط في وحل الذات التي يسهل على السلطات تشويهها. وإن كان لفلاي أن يحمل ملامح من ذلك فهو ليس إلا بمتمركز حول ذاته، غارقاً في الكتب والعادة السرية، بينما تتأرجح شخصيته في مجابهة واقعه بين الشجاعة الآتية من «الفهلوية»، والتمركز حول الذات، والنبل المنحاز إلى الهامشيين من دون أثر يذكر.