كان لا بد من أن يتمخض الحديث المسرف عن حقوق الانسان عن تعميم وتعويم فتمويه لهذا المفهوم الى حد أن أصوله أصبحت غائبة، مثلما أن ظروف نشأته وملابسات ظهوره لم تعد تؤخذ بعين الاعتبار. في هذا الاطار يتساءل ل. فيري وا. رونو عما إذا كان لنا الحق في أن نتكلم عن حقوق الانسان في الفكر القديم، وبصفة أدق: هل لنا الحق في أن نتكلم عن حقوق الانسان قبل الحداثة الفكرية؟ فيجبنا نفياً. فمن يسلم بذلك لا يفعل سوى اسقاط الحاضر على الماضي. ذلك أن ظهور مفهوم حقوق الانسان تولّد عن شروط فلسفية لم تتوفر حقاً الا في العصور الحديثة. أهم هذه الشروط وأساسها ظهور الانسان داخل الكون كقيمة عليا بحيث ترتبط فكرة الحق به هو، وبحيث يغدو هو وحده محط ذلك الحق". الفكر القديم يجعل الطبيعة بكاملها، بحيواناتها ونباتاتها تتمتع بالحق، أما الفكر الحديث "فلا يجعل باقي ما في العالم يرقى إلى مستوى الموضوع القانوني الا انطلاقاً من الانسان وبدلالته". بزوغ هذه الذاتية القانونية لم يتخذ معناه السياسي الا في الفكر الحديث وداخل مدرسة الحق الطبيعي. والانفصال عن الفكر القديم وعن الارسطية في هذا المضمار لم يتحقق الا مع هوبز حيث أصبح القانون صفة تلحق بالانسان الفرد. وفي هذا الصدد يؤكد الباحثان اللذين أشرنا اليهما: "بامكاننا ان نقول انه مع ظهور الاشكالية الحديثة للعقد الاجتماعي والحالة الطبيعية، لم يعد مفهوم المشروعية منفصلاً عن مفهوم الذاتية، حينئذ لن تعتبر مشروعة سوى السلطة التي انبثقت من تعاقد من طرف الذوات الفاعلة التي تخضع لتلك السلطة بمعنى من المعاني. عندئذ ستوضع الذاتية كأصل لكل مشروعية". ثم ان هناك ارتباطاً صميمياً بين فكرة الحقوق الذاتية هذه وبين الشروط السياسية لاقامتها. هذا ما ستبلوره نظرية الإرادة العامة كما هي عند روسو "فهذه النظرية هي التي ستذهب بالتفكير السياسي الذي تعتمده نظرية الحق الطبيعي الى مداه البعيد، وذلك تبعاً للشروط التي يمكن فيها، وفيها وحدها، أن ينظر للشعب على أنه يتمتع بالسيادة، أي على أنه ذات فاعلة حقيقية هي صاحبة كل مشروعية سياسية". وراء مفهوم حقوق الانسان اذن مفهوم الذاتية سواء كانت الذات الفاعلة فرداً أو شعباً بكامله. وغير خاف أن المفهوم الفلسفي للذاتية، كما بين هايدغر، هو من ابداع الحداثة الفكرية ان لم يكن هو المميز الأساس للفكر الحديث بما هو كذلك. ارتباط مفهوم حقوق الانسان اذن بمفهوم الذاتية، يجعله مرتبطاً ان الارتباط بالفكر الحديث كما يحدد منشأه وملابسات ظهوره. يبقى السؤال في ما بعد عن مدى التطابق بين ظرفية المنشأ ومزعم الشمولية والكونية التي غدت مرتبطة به، وهذا موضوع آخر.