بعض القرى الاسبانية يرفض الاعتراف بالتقدم التكنولوجي الذي يغزو الحياة المعاصرة في أوروبا كما يرفض الاعتراف بأنه مدينة حتى لو كان هذا التحول اسمياً كما حدث لقرية "تشينشون" التي تعتبر أشهر القرى التابعة للعاصمة الاسبانية مدريد، هذه القرية التي تعتز بانتمائها للريف كانت موضوع مرسوم ملكي صدر عام 1914 يقضي بتحويلها من قرية الى مدينة، لكن سكانها، الذين لا يتعدون الآن أربعة آلاف مواطن قرروا الابقاء على قريتهم في شكلها ومكانتها، ورفضوا "لقب المدينة" حتى لا تفسد حياتهم البسيطة التي تدور حول ميدان القرية الرئيسي الذي يعتبر شريان حياتها. هذه القرية الصغيرة التي تقع الى الشمال الشرقي للعاصمة الاسبانية، كانت في العصور الوسطى مجرد مزرعة صغيرة لا قيمة لها على عهد الملكة الكاثوليكية "ايزابيل"، ولكن موقعها على نهر "تاخونيا" الصغير، والمروج الخضراء المحيطة به، كانت من الجمال بحيث ان الملكة الاسبانية قررت ان تكون تلك المنطقة هديتها الى صديقتها وأستاذتها "بياتريث دي بواديا"، التي كانت تقوم بدور المستشارة الناصحة للملكة، وكانت تعتبر أشهر امرأة مثقفة في أوروبا في ذلك الوقت، الذي كان فيه الرجال يسيطرون على كل شيء. وظلت القرية الصغيرة مستقراً لأوقات الراحة لتلك السيدة، لكن الزمن جعل ملكية القرية تنتقل من يد مالك الى آخر، عبر عقود البيع أو الهدية على سبيل "المهر" في أعراس الزواج، الى أن وصلت الى يد الأمير "لويس دي بوربون" شقيق الملك "كارلوس الثالث"، الذي أكمل بناء ميدان القرية الرئيسي الذي تتكور دائرته لتصبح بيضاوية الشكل، تطل عليه بيوت القرية من جميع الجوانب، تلك البيوت التي تتميز بشرفاتها المتلاصقة، التي تكاد توحد بين مبانيها، فتجعلها مبنى واحداً. وعند اكتمال بناء الميدان رأى الأمير أنه لن يصلح لشيء سوى "مصارعة الثيران". ولأن الملك شقيق الأمير مالك القرية كان عاشقاً لرياضة مصارعة الثيران مثله ككل الملوك الاسبان، قرر زيارة القرية للاستمتاع بمشاهدة هذه المصارعة بعض الوقت. وشكلت هذه الزيارة التاريخية بداية نمط حياة مختلف لهذه القرية المجهولة الهوية، لأن المصارعة كانت تنتهي عادة بذبح الثور وتوزيع لحمه على سكان القرية، واستمر هذا التقليد حتى وقتنا الحالي، حيث لا تقام هناك سوى حلبات المصارعة الخيرية. استمرت القرية مكاناً محبباً للملوك الاسبان الذين ساروا على خطى الملك "كارلوس الثالث"، الى أن جلس على العرش الملك "فيليبي الخامس". وكانت زيارة القرية احدى الهوايات الرئيسية المحببة لديه للاستمتاع بمشاهدة المروج الخضراء ومصارعة الثيران حتى انه من فرط اعجابه بإحدى حلبات المصارعة قرر عام 1502 ان يطلق على المكان اسم "الجميل". لكن حلبات المصارعة التي كانت تقام هناك بقيت تشهد مباريات هدفها اشباع الهواية، وليس المصارعة المحترفة كما يحدث في الحلبات الاسبانية التي يؤمها الجمهور. وتجري المصارعة في ميدان القرية المفتوح، ثم تنتهي بذبح الثور والتبرع بلحمه. وحتى لا تفقد القرية الملكية الصغيرة طبيعتها، وقف سكانها على الدوام موقفاً معادياً لكل محاولات جرت لتغيير ملامحها المعمارية، وظلت لهذا الغرض ترفض كل المساعي لاقامة الأبراج الخرسانية التي غزت معظم القرى من حولها. ويفسر هذا الأمر ان "تشينشون" لا تزال قرية تتميز بطابعها المعماري البسيط، ومن هنا كان رفضها مرسوم تحويلها من قرية الى مدينة عام 1914، وهذا الرفض كان نابعاً من خوف السكان من ان تفقد القرية طابعها الريفي المميز على رغم انها تحولت من مزرعة لحقول "الثوم" الذي تشتهر بانتاجه، لتصبح قرية يقصدها الباحثون عن جمال الطبيعة والراحة، وتذوق أجمل "خروف مشوي" تقدمه المطاعم المتخصصة في شيه والتي انتشرت في الكثير من الطوابق السفلية لبيوت القرية المطلة على الميدان الرئيسي والبيوت المحيطة به. شهرة الحفاظ على الطابع الريفي للقرية التي تقع على بعد كيلومترات قليلة من العاصمة، وشهرتها في إعداد "الخوف المشوي" جعل منها مقصداً لزوار العاصمة، الى درجة ان السياحة الريفية البيئية بدأت تتخذ منها رمزاً، فأقامت فيها فندقاً من فئة "النجوم الأربع". وهي تعتبر لهذا الأمر القرية الوحيدة في أوروبا التي لا تزال تحافظ على طابعها الريفي بكل ما تملك من قوة. والفندق على رغم رفاهيته، لم يستطع ان يكسر طابع القرية المعماري الذي التزم به، اذ يبدو كما لو كان أحد البيوت القديمة التي توارثتها القرية عن ملوكها السابقين. ولا يحاول سكان قرية "تشينشون" تحدي عوامل الطبيعة والحتمية التاريخية في ما يتعلق بالمباني الأثرية. وبقيت البقايا المهدمة لبعض المباني التي دمرها الفرنسيون أثناء غزوهم لاسبانيا، ودخولهم القرية عام 1809 كما هي من دون تغيير. وتبدو تلك الأطلال الأثرية كما لو كانت بقايا قلاع قديمة واجهت عدواً مدمراً، أو تذكرة لغزاة حاولوا تدميرها، لكنها بقيت شاهداً على همجيتهم وقسوتهم بحق سكان قرية صغيرة آمنة ترفض التخلي عن هويتها الريفية. وعندما سقط قصر أحد الارستقراطيين الذين تملكوا القرية، قرر السكان تركه على حاله، لكنهم استغلوا الفراغ الداخلي للقصر ليقيموا فيه مسرحاً كبيراً، وضعوا عليه اسم أشهر كتّاب الكوميديا في اسبانيا "لوبي دي بيجا"، وبدأ المسرح يقدم أعمالاً لهذا الكاتب منذ عام 1891. هذا العشق لفنون الجمال كان من أهم دوافع فنان اسبانيا الشهير "فرانثيسكو غويا" لزيارتها في الكثير من المناسبات، بل كان يعتبرها أحد أجمل الأماكن الفاتنة التي يركن فيها للراحة والاستمتاع بالجمال، وكان بيت صديقه الحميم كاميلو قس القرية مستقره الدائم في زياراته المتكررة لها. ولا تزال القرية تحتفظ من هذه الزيارات بلوحة فنية من اهداء "غويا"، رسمها تخليداً للمكان عام 1795 وتعتبر من اندر الأعمال التي تركها الفنان الشهير.