كان واحداً من اثنين أو ثلاثة من كتّاب الأدب البوليسي الأميركي، عرفوا كيف يقفزون بهذا النوع من الكتابة من حيز الكتابة الشعبية الرخيصة والقائمة، فقط، على مبدأ الترفيه، الى حيز الكتابة الجادة التي تتخذ لها مكانة محترمة في عالم الأدب الرفيع. من هنا، لم يكن من الصدفة ان يكون واحداً من قلة من كتّاب الرواية البوليسية، خاضت النضال السياسي الى جانب القوى اليسارية الأميركية، مما فتح عليه، عين لجنة ماكارثي وجعله في فترة من الفترات عرضة للاضطهاد اسوة بزوجته، في ذلك الحين، الكاتبة ليليان هيلمان، التي روت جزءاً من حكايتهما في رواية اقتبس منها فيلم "جوليا" لفرد زينمان قبل عقدين من السنين. اسمه داشييل هاميت، وارتبط اسمه، على الأقل، بثلاث أو أربع من أهم الروايات البوليسية التي انتجها الأدب الأميركي، كما ان السينما اقتبست من نصوصه عدة أفلام تعتبر اليوم من الكلاسيكيات في مجالها، اضافة الى أن واحدة من رواياته وهي "الحصاد الأحمر" تعتبر الرواية التي لا يكف عن الحلم بنقلها الى الشاشة بعض أهم مخرجي السينما العالمية ومنهم ستانلي كوبريك وبرناردو برتولوتشي. داشييل هاميت الذي رحل عن عالمنا يوم العاشر من كانون الثاني يناير 1961 وهو في قمة مجده الأدبي، ولد العام 1894 في ولاية ميريلاند الأميركية، وتلقى علومه في بالتيمور وفيلادلفيا، ليترك الدراسة وهو في الرابعة عشرة من عمره، حيث وكما هي عادة كبار الكتّاب الأميركيين العصاميين مارس العديد من المهن، كساع وموظف وحمّال، وانتهى به الأمر في تلك الحقبة للعمل كتحرٍ خاص في وكالة بنكرتون، وهي المرحلة التي زودته ببعض أهم مواضيع رواياته المقبلة. خاض هاميت الحرب العالمية الأولى وعاد منها مريضاً حيث أمضى فترة طويلة في العديد من المستشفيات العسكرية قبل أن يستعيد نشاطه المهني، وتحديداً ككاتب للقصص والروايات البوليسية حيث سرعان ما بدأ ينجح ويُنظر اليه بوصفه معلماً من المعلمين في ذلك المضمار، وكانت ثلاثة أو أربعة كتب كافية لتأتيه بالشهرة والثروة والمكانة، وفي مقدمتها روايته الكبيرة الأولى "الحصاد الأحمر" 1928 ثم "دم فاسد" 1929. وخلال السنوات السبع التالية أصدر هاميت روائعه بصورة متتالية: "الصقر المالطي" و"المفتاح الزجاجي" و"الرجل النحيل". حين حلت الحرب العالمية الثانية كان داشييل هاميت في الثامنة والأربعين من عمره، لكن تقدمه في السن لم يمنعه من أن يخوض الحرب مجدداً، ولو كمساهمة منه في محاربة النازية وهو الذي كان في ذلك الحين قد اكتشف الأفكار التقدمية وبدأ يؤمن بها، بشكل انعكس على بعض رواياته وقصصه القصيرة، مما جعل البعد الاجتماعي يطغى في تلك الكتابات على البعد البوليسي أو، حتى، السيكولوجي الذي ميز أعماله على الدوام. في 1951 وابان اشتداد حملة السناتور ماكارثي ضد جميع التقدميين واليساريين الأميركيين، وهي الحملة التي استهدفت، في الحقيقة، القوى الروزفلتية كافة تحت ستار محاربة الشيوعية، وضع داشييل هاميت في السجن لمجرد أنه، مبدئياً، رفض التصريح أمام اللجنة الماكارثية باسماء الأعضاء المتبرعين في "مجلس التعاضد من أجل الحقوق المدنية" غير أنه سرعان ما خرج من السجن وقد ازدادت مكانته لدى القراء وراحت كتبه تترجم الى العديد من اللغات، وتحول الى أفلام ناجحة. خلال واحد وثلاثين عاماً، هي النصف الثاني من عمره، عاش داشييل هاميت مع ليليان هيلمان، الكاتبة الروائية والمسرحية الشيوعية المعروفة، وعلى الرغم من أن كتبه تنشر، وفي كافة اللغات، ضمن سلاسل الكتب البوليسية، فإنه هو شخصياً يعتبر مؤلفاً مرموقاً من مؤلفي الأدب الرفيع، اذ فيما وراء الحبكات البوليسية المبتكرة التي تشكل محور رواياته وقصصه، ترى الباحثة جانين بارو أن داشييل هاميت قد عرف كيف يرسم صورة دقيقة وقاسية لأميركا ما بين الحربين الأولى والثانية، أميركا التي تفاقم البؤس فيها لا سيما خلال المرحلة التي منعت فيها الكحول، وأميركا التي انحدرت فيها الأخلاق وبات فيها كل شيء مرتبطاً بعالم العصابات المرتبط بدوره بالصفقات المالية الكبيرة. من هنا تبدو روايات هاميت وكأنها صورة للصراع العنيف والقاتل في سبيل السلطة والثروة، ناهيك عن أن أسلوب هاميت، لا سيما في الحوارات، يعكس لغة الشارع ونبض الحياة. ولقد حيّاه زميله ومنافسه الرئيسي ريمون تشاندلر ذات يوم بقوله: "لقد نجح داشييل دائماً في الأمر الذي لا ينجح فيه عادة إلا كبار الكتّاب، نجح في كتابة فصول ومشاهد تحس وأنت تقرأها ان أحداً لم يعرف كيف يكتبها من قبل".