تبددت ملامح اتفاق جنيف الأخير بين العراقوالاممالمتحدة بوساطة الديبلوماسية الروسية ومباركة بعض دول مجلس الأمن، وعاد الملف العراقي من جديد الى مقدم الاحداث الدولية بعد ان تصاعدت وتائر أزمة القصور الرئاسية بين طرفي النزاع. ويبدو ان ابعاد هذه الأزمة لا زالت في اطار التكهنات، خصوصاً وان مقياس المواقف العراقية لم يعد في نظر أغلبية المحللين مقياساً يعتمد عليه في تفكيك عناصر الأزمة أو تحديد الاتجاهات العامة لكل مرحلة من مراحل المواجهة مع الاممالمتحدة. ففي سياق التصعيد أو التراجع العراقي توجد العديد من التداعيات التي تعكس حال عدم الاستقرار والتخبط في ادارة الصراع مع الاممالمتحدة. وربما يكون السبب في ذلك الجهة المشرفة على ادارة هذا الصراع، وهي في أكثر التقديرات ذات مصدر واحد وهو الرئيس العراقي صدام حسين. لأنها وحسب المعطيات أو الوقائع لا تعتمد على قراءة متأنية ودقيقة للإطار الإقليمي والدولي المتداخل مع حيثيات الملف العراقي الذي يؤثر في مجمل التطورات المحيطة بهذا الملف، وانما على ردود الفعل المرحلية ذات الصلة بالعديد من القضايا الجانبية التي ترتبط بالقرارات الدولية، ولكنها لا تشكل عمودها الفقري. ولعل إحدى القضايا الجانبية التي استنفرت قوى وطاقات النظام العراقي الاعلامية والسياسية والديبلوماسية، هي قضية تفتيش قصور الرئاسة، وربما يعتقد البعض من المهتمين بالملف العراقي، ان هذه القضية تستخدم حالياً كوسيلة لاستكشاف نبض المواقف الدولية تجاه العراق، أو أنها قد تكون خدعة جديدة لتسفيه المواقف الاميركية المتشددة عندما تنتقل المواجهة الى مستوى الخيار العسكري، حيث ستقوم واشنطن بتوجيه أولى الضربات العسكرية الى هذه المواقع، وعندها سيكتشف العالم انها خالية من أسلحة الدمار الشامل وبذلك تنكفأ الادارة الاميركية في حالة من الخيبة والخجل أمام دول العالم والرأي العام العالمي، وبذلك يحقق النظام العراقي قفزة كبيرة باتجاه رفع العقوبات الاقتصادية عنه، وهذا الاعتقاد يقابله اعتقاد آخر معاكس، وكلا التفسيرين يدعمهما بيان مجلس قيادة الثورة العراقي الأخير الذي يتهم واشنطن بالتحضير لتوجيه ضربة عسكرية بأسلحة الدمار الشامل لهذه المواقع بغية اثبات ادعاءاتها بأنها تحتوي على مثل هذه الأسلحة لغرض تكذيب العراق وتصديق ادعاءاتها، فالبيان يمكن ان يكون دليلاً على وجود مثل هذه الأسلحة أو عدم وجودها، ولا أحد يستطيع ضمان العاقبة في توجيه ضربة عسكرية لهذه المواقع، فيما اذا كانت حقاً تحوي على أسلحة بيولوجية وكيماوية، لأن حدود الإبادة في مثل هذه الحالة سوف لن تشمل الشعب العراقي وحده وانما شعوب البلدان المتاخمة للعراق. ويحاول النظام العراقي التعامل مع قضية "المواقع الحساسة" كما يسميها من منطلقات تحريضية وتعبوية، الغرض منها احراج واشنطن ومنعها من توجيه ضربة عسكرية لهذه المنشآت، حيث قام بزج مئات العوائل الفقيرة في معركة التحدي هذه وأسكنها في تلك القصور بغية استخدامها دروعاً بشرية في مواجهة أي تحرك عسكري اميركي محتمل لضرب هذه المواقع. وقام بتحريك الشارع العراقي في مظاهرات صاخبة طافت المدن العراقية منددة بالمواقف الاميركية المتشددة ومطالبة برفع العقوبات الاقتصادية والكف عن تهديد العراق باستخدام القوة. أما على الصعيد الخارجي فتركزت تصريحات المسؤولين العراقيين وزياراتهم حول الربط بين هذه القصور وموضوع السيادة الوطنية، وهي مقولة ربما تحصد بعضاً من التفهم لدى عدد من بلدان العالم، ولكنها لا تعبر عن مصداقية جدية كونها تختصر سيادة العراق كاملة في مواضع رئاسية محددة، تزيد عن حاجة الرئيس العراقي وعائلته، اذ يصل عدد هذه "المواقع الحساسة" 82 قصراً و63 موقعاً آخر، كما صرحت بذلك مصادر مسؤولة في البيت الأبيض، لذلك فإن استثناء القصر الجمهوري باعتباره المؤسسة الرسمية في الدولة قد يكون قابلاً للنقاش، اما عدا ذلك فإن بقية القصور الرئاسية لا يكن ان تكون مواقع رسمية تمثل الدولة العراقية. الأزمة الراهنة بين العراقوالاممالمتحدة قضت نهائياً على الادعاءات العراقية التي اتهمت السفير رالف اكيوس بالتعهد في تصعيد المواجهة مع الاممالمتحدة خدمة للمواقف الاميركية - كما وقضت ايضاً على تعهدات وآمال الرئيس التنفيذي الحالي للجنة الخاصة المكلفة إزالة أسلحة الدمار الشامل ريتشارد بتلر التي أطلقها في النصف الثاني من شهر تموز يوليو الماضي، حينما قام بأول زيارة له الى بغداد لفتح صفحة جديدة في العلاقة ما بين الاممالمتحدة والنظام العراقي، فقد تعهد القيام بمهماته بسرعة وموضوعية لإفراغ سلة الأسلحة العراقية المحظورة بما يمكنه من تقديم تقرير الى مجلس الأمن يتسم بالصدقية، وقد مرت هذه الفترة التي تعتبر فترة طويلة في قياس الزمن المرتبط بالأزمة من دون ان يتحقق شيء من ذلك، بل ان الوضع قد تعقد أكثر من السابق، وأصبح النظام العراقي الذي امتدح في البداية أداء بتلر وتفهمه للمهمة المكلف بها يردد نفس الاتهامات التي سبق أن أطلقها ضد الرئيس السابق للجنة الخاصة السفير رالف أكيوس، لمجرد ان بيتلر لم يتسامح بما تقتضيه حدود المسامحة في قضية تفتيش القصور الرئاسية، وربما كانت نقطة الافتراق الأول بين مساعي بتلر واستجابة السلطات العراقية، تلك التلميحات التي أشار فيها الى اهمية تعاون العراق مع اللجنة الخاصة بناء على القرار 1115 الذي طالب العراق بتسهيل مهمة اللجنة في أداء أعمالها والتعاون معها بغية توفير المستلزمات المناسبة أمام رئيسها لتقديم تقريره الى مجلس الأمن في 11 تشرين الأول اكتوبر الماضي يتضمن ملحقاً تقويمياً لهذا التعاون، وعندما تمت مراجعة التقرير في جلسة مجلس الأمن والتي انعقدت في 23 تشرين الأول، تبددت آمال النظام العراقي حينما أصدر المجلس تمديده للعقوبات. بل واعطى مهلة الى نيسان ابريل المقبل لتقويم تعاون العراق مع لجنة التفتيش الدولية، والنظر في العقوبات مجدداً، ولم ينقض الشهر حتى أقام النظام العراقي بعملية تصعيد جديدة في المواجهة مع الاممالمتحدة، حيث طرد في 29 تشرين الأول عشرة اميركيين من اعضاء فريق التفتيش، وانقلب العالم على النظام من جديد، ولاحت في الأفق مؤشرات الرجوع الى الخيار العسكري وقامت الولاياتالمتحدة باستغلال هذه المفاجئة، حيث وجهت اساطيلها العسكرية الى الخليج واصبحت الضربة العسكرية قاب قوسين أو أدنى، وعادت الأجواء تتلبد بمخاطر الحرب المقبلة، وحين شعر الرئيس العراقي بجدية الموقف الاميركي، راح يحرك وسائله الديبلوماسية والتعبوية لمنع الضربة، وربما هو الذي دعا روسياوفرنسا الى الضغط على الولاياتالمتحدة لاعطائه مبرر للتراجع عن قراره هذا، وفعلاً مع تحرك الديبلوماسية الروسية وبالذات الاتصال الذي تم بين يلتسن وكلينتون قبل توجيه الضربة العسكرية الاميركية للمواقع العراقية التقط رئيس النظام العراقي هذه الفسحة فأصدر قراره بعودة المطرودين في 19 تشرين الثاني نوفمبر الماضي، ولم تمر الفترة اللاحقة بعد هذا الاجراء حتى عادت الأزمة من جديد حينما واصل النظام العراقي موقفه الرافض لتفتيش "المواقع الحساسة"، مستخدماً كما أشرنا في بداية المقال يافطة "السيادة الوطنية". وفي ضوء هذا التصعيد يعود الخيار العسكري الى الظهور من جديد، فقد اصبحت في يد واشنطن مبررات لضمان صمت الدول الأخرى في مجلس الأمن التي ألحت على استنفاد المساعي الديبلوماسية لحل الأزمة عندما تقوم القوات الاميركية المتواجدة في الخليج بتوجيه الضربات العسكرية الى المواقع العراقية، وترافقت تداعيات التصعيد بصدور اشارات من الاممالمتحدة تؤكد فشل الجهود التي بذلتها المنظمة الدولية لإقناع المسؤولين العراقيين بالتراجع عن موقفهم والتعاون مع لجنة التفتيش الدولية، واثناء ذلك صرح مسؤول في البيت الأبيض قائلاً: "بارك الله صدام حسين، فقد عمل من أجل إنجاح سياستنا أكثر مما تمكنا من عمله نحن، لقد وحد العالم ضده مرة أخرى بفعل طائش من أعماله". وهدد هذا المسؤول باستخدام الردع العسكري في ايقاف الرئيس العراقي عند حدوده التي رسمتها القرارات الدولية. وقد حسم مجلس الأمن مؤخراً في بيانه الصادر بتاريخ 22 كانون الأول ديسمبر الماضي الأمر بصورة جلية تعبر عن وحدة الموقف الدولي تجاه تفتيش المواقع الحساسة واستكمال عمل اللجنة الخاصة، حينما أكد ان عدم اتاحة حكومة العراق للجنة الخاصة المكلفة إزالة الأسلحة العراقية المحظورة الوصول فوراً ومن دون شروط الى أي موقع أو فئة من المواقع أمر غير مقبول وانتهاك واضح للقرارات ذات الصلة. واعرب المجلس عن تأييده التام للجنة ورئيسها، واعتبر الأمر يتعلق الآن بمدى تعاون حكومة العراق في الكشف عن النطاق الكامل لبرامجها المحظورة مع اتاحة السبل أمام اللجنة الخاصة للوصول الى جميع المواقع والوثائق والسجلات والأفراد من دون وضع عوائق. الأزمة بين العراقوالاممالمتحدة لا زالت تتصاعد بتصاعد الرفض العراقي لتفتيش المواقع الحساسة أو التعاون الجاد مع اللجنة الخاصة والمنظمة الدولية، وهذا الموقف لا يعبر أبداً عن حسن نية من الطرف العراقي لتسوية الوضع المأساوي الذي يعاني منه الشعب العراقي في ظل العقوبات الاقتصادية المفروضة عليه من قبل الاممالمتحدة، وهو أيضاً يكشف الى حد بعيد عن استخفاف السلطة الحاكمة في بغداد بمقدارات العراق شعباً ووطناً، حينما تحاول المجازفة بأمنه واستقراره وتعرض مصائر الناس الى المزيد من الأخطار والكوارث لا بحثاً عن ما يعيد للعراق مكانته الضائعة في زحام الحروب المتكررة والحصار الشامل والتخلف والمجاعة والارهاب، وانما لتوطيد مكانة الحاكم الفرد والفئة المحيطة به. ان هذه الأزمة لا يمكن بأي حال من الاحوال اعتبارها أزمة سيادة أو حقوق عراقية وانما هي حالة مفتعلة يراد منها اكتشاف آفاق الموقف الغربي تجاه استمرار صدام في السلطة أو عدم استمراره، علماً بأن سياسة الاحتواء التي تمارسها واشنطن لا زالت تشكل جوهر السياسة الخارجية تجاه العراق، وهذا يعني في نهاية المطاف ان اختبارات النظام العراقي التي يطلقها بين الحين والآخر ترتبط اساساً بهذا الاعتبار، فلو تأكد النظام الحاكم في بغداد بصورة قطعية من ان الولاياتالمتحدة وحلفاءها الغربيين ما عدا فرنسا مستعدة لإلغاء فكرة ربط رفع العقوبات برحيل صدام حسين عن السلطة لقام بفتح أبواب المواقع الحساسة جميعها أمام لجان التفتيش ولقام أيضاً بتدمير كافة الأسلحة المحظورة المتبقية، ولاكتفى بما هو عليه وتنازل عن مقولة السيادة الوطنية التي أصبحت على ما يبدو الوسيلة الأخيرة في مناوراته الديبلوماسية مع دول العالم والاممالمتحدة. ان التأزيم المتكرر للعلاقة مع الاممالمتحدة لا يمكن ان يؤدي بأي شكل من الأشكال الى رفع العقوبات الاقتصادية عن الشعب، ولا يضع حداً لمعاناة العراقيين في ظل الأوضاع الراهنة، وانما سيوفر الغطاء والمبررات لإدامة هذه العقوبات واستمرار عزل العراق عن محيطه العربي والدولي، والأخطر من ذلك كله انه سيفتح الطريق أمام عودة اجواء الحرب من خلال استخدام وسيلة الردع الاميركي من العراق، وبذلك يدفع الشعب العراقي ثمناً باهظاً من الضحايا ودورة جديدة من المآسي والفقر والمجاعة، من دون ان تؤثر نتائج ذلك على حالة الفئة الحاكمة اذا ما كان المشروع الاميركي محصوراً في حدود اضعاف العراق فقط من دون المساس بموقع النظام الحاكم. المواجهة مع الاممالمتحدة لا محالة الى التصادم الذي سيخلق ظروفاً جديدة ليست في صالح العراق، وسيترك آثاراً بالغة وخطيرة على مستقبل العراق والمنطقة عموماً، فالتعاون التركي - الاسرائيلي ينشط في كل مرة تتعرض فيها علاقة العراقبالاممالمتحدة الى أزمة جديدة، والقوات التركية تتحرك لاحتلال الأراضي عند كل منعطف سلبي في هذه العلاقة، ومعنى ذلك ان أي عمل عسكري مقبل ضد العراق سيشجع تركيا للتفكير جدياً بضم أجزاء من المناطق العراقية الى أراضيها وبخاصة الموصل وما يحيطها والوصول الى منابع النفط في كركوك، مستغلة بذلك التعاطف الاميركي معها الذي تعزز أخيراً بعد فشل تركيا في الانضمام الى المجموعة الأوروبية، كما وسيسهل تقسيم العراق وانفصام المنطقة الشمالية بصورة نهائية عن الجسم العراقي. اما على صعيد الجنوب، فإن احتمالات الامتداد الايراني في المناطق المتاخمة للحدود العراقية - الايرانية وبخاصة مناطق النزاع قرب شط العرب، ستكون بديلاً مضموناً للتعويضات التي تطالب بها ايران جراء خسائر الحرب التي شنها النظام العراقي ضدها، وربما تفكر بإقامة كيان شيعي تابع لها في هذه المنطقة. بيد ان أخطر ما في سيناريو المواجهة التي يمكن ان تقود الى وضع يشبه هذه الاحتمالات، هو امكانية انقسام الولاءات بين العراقيين، مما سيؤدي الى حرب أهلية على غرار الحرب الافغانية، نتيجة وجود العراق في اطار معين تحيطه دول متنازعة لكل منها امتدادات سياسية واستراتيجية في المنطقة. وهذه التوقعات جميعها واردة في حالة تصاعد الأزمة وانتقالها الى مستوى المواجهة العسكرية، لذلك فإن الخروج من هذا النفق يفرض على النظام العراقي التفكير بصورة جلية في تجنب خطوط الحظر وعدم تعريض الشعب العراقي والدولة العراقية الى ما ليس في الحسبان، وذلك من خلال الالتزام الكامل والواضح بالقرارات الدولية وتنفيذ كافة الشروط التي أقرتها الاممالمتحدة ووافق عليها العراق. فالنظام العراقي حالياً ليست لديه القدرة على مواجهة الاممالمتحدة، أو إرغامها على التسليم بالأمر الواقع، وليس من طريق آخر سوى طريق الامتثال للإرادة الدولية، وبذلك يمكن تجنيب العراق والعراقيين مخاطر جدية قد تفوق المخاطر التي تعرض لها طوال السنوات السبع الماضية.