عزت الروائية السعودية رحاب أبو زيد احتلال بعض الأسماء صدارة المشهد السردي مع عدم استحقاقهم وجدارتهم لذلك إلى غفلة أسماء أخرى أحق وأجدر، لافتة بعد عام من صدور روايتها «الرقص على أسنة الرماح» إلى أن من يظن أنه أجدر بالصفوف الأمامية فعليه الاشتغال على تطوير ذاته أولاً ومرجعيته الثقافية، ثم نبذ التكاسل والتسويف للمشاركة. وقالت في حوار مع «الحياة» إن أزمة مجتمعنا في قبليته لا في ذكوريته، مبدية تحفظها على تساؤلات سمجة يقابلها الكاتب والكاتبة السعودية أينما توافر قارئ واحد «عن ماذا تحكي الرواية؟» أو «من كنتِ تقصدين ؟ ليتحول القارئ من متلقٍ نبيل إلى متلصص متطفل هنا نص الحوار: هل استغوتك موجة الكتابة الروائية فركبتها ب «الرقص على أسنة الرماح»؟ - لن أرتقي منصة المتهم لأدافع عن حلم لطالما أفزعني من نومة هنيئة أو ربت على كتفي مطمئناً فزعي، فبطبيعتي لستُ انعكاساً لشعاع ولا امتداداً لنهر، خُلقت لأنبع وحدي كماءٍ يتفجر من دون أن تغويه محيطات العالم الموجة سكنتني ولم أعتليها، ربما همٌ عام أو هو قلق خاص ما يعنيني اليوم حين أسترجع البدايات منذ ما يقارب عشرين عاماً هي تلك الحماسة والرغبة في إحداث تغيير حقيقي في النظرة المتردية آنذاك ليس للمرأة فحسب، بل لعلاقة الإنسان بنفسه ثم شريك حياته ومجتمعه، هناك زرعتُ النواة الأولى «للرقص على أسنة الرماح» في جوفِ تربةٍ صبور قبل أن تهب موجة الكتابة الروائية، حين كان الشعر سيد الموقف إن كان ثمة إغواء حينذاك فأعزوه لبريق الكلمة ونقطة الحبر ونداء أرواح تنشد العزاء. ما الدافع الأول لكتابة هذا العمل؟ - كطرق زخات المطر على زجاج نافذة في ليلة صيف، كفجائية لص متسلل خفية في حديقتك يدق الباب مستأذناً بالدخول ليسرقك، داهمني النص في أحلامي وكوابيسي ملحاً على الولوج إلى عالمي الفكري والشعوري عابراً الميتافيزيقي إلى الملموس، كان أحد أهم الدوافع إنقاذ ما يمكن إنقاذه من النسيان والجحود والخذلان ورياح التغيير السلبي، الكلمة فقط تحفظ الجوهر –الذي نهمله بالركض خلف لقمة العيش – لترى نفسك بعد سنوات بعيون الطهر الذي كُنته. واسمح لي أن أعيد صياغة الإجابة بناءً على الدافع وراء المرحلة التالية للكتابة وهي نشر العمل، إذ ان النشر بحاجة لدوافع أخرى، إذ تبيّن لي أن تقدم الصفوف المتأخرة عن غير استحقاق وجدارة إنما يتم في غفلة منّا، فمن يظن أنه أجدر بالصفوف الأمامية عليه الاشتغال على تطوير ذاته أولاً ومرجعيته الثقافية، ثم نبذ التكاسل والتسويف للمشاركة في «طفرة» الانفتاح على الآخر. استشعرت أن سيرورة الرواية مشبعة بردود الأفعال؟ - لم تكن البتول قادرة على اتخاذ «الفعل» أو المبادرة به حتى منتصف العمل، وهذه هي حال معظم الفتيات في مثل ظروفها ووضعها الاجتماعي، لو حاولت أن تكون فاعلة ولو بصفة سلبية مثل تعبئة الرغبة في الانتقام كذخيرة حية فستوصم بالشغب والخروج عن تعاليم اللياقة والتهذيب، بل وتجاوز حدود العيب والمحرّم حتى لو لم تأت بما يصنّف في خانة ذلك، فكل ما تمر به البتول من معتركات وصدامات يثبت أننا أسرى مجتمع «قبلي» لا «ذكوري» من شأنه أن يحوّل كائنات حية نابضة إلى أشباح تمشي على الأرض فقط للتواجد والتكاثر وهذا في جميع حالات قسوته يشمل الجنسين، الأمر الذي شجعني على رفض الاستعمال المكرور للفظة «ذكوري»، لأن الصفة تلغي النصف الآخر، ولكثرة ترديدها في الأوساط الثقافية تحوّلت من وصمة استنكارية تصطبغ بالإدانة إلى مسوّغ لكثير من المسالك المتّبعة لسحق امرأة أو التنكيل بأخرى، بينما في المقابل يقبع الرجل والمرأة بمقادير ونسب مختلفة تحت سطوة أحكام القبيلة ووطأة قيود العائلة الكبيرة. هل وعيت مسبقاً الفرق بين السيرة الذاتية والرواية؟ وكيف نجحت في الفرار من سيطرة الهاجس السيري؟ - كما ينجح ممثل بارع في تشخيص دور إنساني قد لا يتقاطع مع حاله مطلقاً، جميل هذا السؤال لأني أمقت قراءة العمل الأدبي من زاوية السيرة الذاتية، وأظن هذا لا يحدث إلا في التعاطي مع الأديبات والأدباء السعوديين، إذ يسمو القارئ العربي – الذي اعتبر القراءة جزءاً من نشاطه اليومي منذ عصور - فوق تساؤلات سمجة يقابلها الكاتب والكاتبة السعودية أينما توافر قارئ واحد «عن ماذا تحكي الرواية؟» أو «من كنتِ تقصدين بالشخصية الفلانية؟» وهكذا يظلم التقويم المسبق بضحالته العمل وصاحبته فيتحول القارئ من متلقٍ نبيل إلى متلصص متطفل بين السطور كما أولئك الفضوليون الذين يقضون أمتع أوقاتهم فوق سطوح المنازل، متصيدين إشارة هنا أوهناك تثير مخليتهم، وفررت من الهاجس السيري بتربية نفسي أولاً على قناعة مهمة وهي أن الكرم ضد الأنانية، ومن الأنانية بمكان أن تظن أنك وحدك المصاب. كم استغرقت الرواية من زمن كتابي؟ - كانت النواة الأولى للعمل عام 1996، ونشرت أجزاء منه عبر الشبكة العنكوبتية تحت مسمى «تأملات امرأة عاشقة»، كنتُ وما زلت أؤمن بجدية الكتاب المطبوع أكثر من فاعلية الكتابة عبر المنتديات الثقافية على النت، لكني لجأت لذلك في البداية لدراسة ردود الأفعال وبعض الآراء والانتقادات، وكان ذلك متلازماً مع كوني كاتبة مقال في صحيفة البلاد حينذاك تحت زاوية «عناقيد العنب» ثم تابعت الخوض في أدّق تفاصيل الشخوص ورسم المحاور الرئيسية لهم بعيشي بينهم حتى النخاع، تركت اعتصاري بالبحث عن الشكل الملائم والنهائي حتى الرمق الأخير عام 2007، ثم لزم العمل ملفاتي حتى صدوره في نهايات 2010. أين نقبض على رحاب في روايتها ؟ - في انكسار إيمان، وتمرّد سمر، وعنفوان البتول، وطموح وفاء، ودهاء عماد، وتيه فؤاد. بماذا تعلقين على من يصف عملك بالطافح بنبرة الوجع؟ -كل شخصية تمثل قضية، وكل قضية تمثل رمحاً، وكل رمح هو رمز لحالة وجع بالتأكيد، لكن بعض التعليقات أفادت أن العمل لا يخلو من روح الطرفة والظرف، وكانت شهادة أعتز بها تماماً كما لو قيل لي انها توغلت بعمق جرح ما، لذا أقول لمن يصفها بهذا الوصف أن الوجع تهمة لا أنكرها وشرف لا أدعيه، ولكن عليه توسيع نطاق الرؤية فالمشهد زاخر والأفق عريض، ومن جهة أخرى الوجع في مبتدأ الأمر دليل تفاعل وحيوية. كيف تلقى النقاد روايتك؟ ما ردود أفعالهم؟ -بالنظر إلى مرور مدة وجيزة بعد إطلاق العمل، تعتبر ردود أفعال إيجابية، وفي رأيي مجرد أن يحظى العمل بقراءة انطباعية فهذا يحمل بحد ذاته منحى مبشراً بالخير، على رغم يقيني أن لعين القارئ الحصيف أحياناً سطوة أقوى على النص ورؤية منصفة قد تفوق قدرة الناقد الذي يتحرك ضمن أُطر أدبية محددة ويناوش النص تبعاً لمدارس قديمة نوعاً ما إن لم تكن نمطية، يتقبل القارئ الفطن أحياناً ما لا يتقبله الناقد قصير النظر، وبشكل عام خلقت هذه القراءات حول النص هالة جذابة أثارت دهشتي أنا شخصياً للزوايا التي تناولت منها العمل. ما مدى الاحتفاء بها محلياً؟ - على النقيض من توقعاتي، كان استقبال الرواية محلياً باعثاً على البهجة على رغم إيماني أن اللغة الأدبية والكتابة فن لا يحتمل التقسيمات المناطقية، وحتى نعبر للآخر لسنا بحاجة للخضوع إلى القوانين التي تصدمنا عند عبور الحدود، وربما أسهمت قفزة الوعي المحلي ثقافياً واجتماعياً كذلك - في نظرته للمرأة عموماً وقدراتها ونتاجها - في هذا الاحتفاء الجميل، فلقد نوقشت الرواية من خلال لقاءات تلفزيونية عدة على قناة الثقافية السعودية، ونشرت أخبار وقراءات عنها كذلك في الصحف المحلية والعربية، والمواقع الإلكترونية ما يدل على استعداد المتلقي اليوم لاكتساب المقدرة على التفريق والتمييز بين العمل الجيد وبين العمل الرديء، علماً بأنني أعتبر تلبية هذه الدعوات من جانبي واجباً وطنياً، إذ أفتخر أني أسهم في رسم الخطوط المعاصرة للخريطة الثقافية الحديثة في الوقت الراهن.