جاءت ثورات تونس ومصر وليبيا (سورية واليمن قطعتا أشواطا مهمة في هذا الطريق) لتفتح آمالا ديموقراطية عريضة، كما كشفت درجة الاستبداد الذي يعيشه العالم العربي عموماً. وعلى غير انتظار، أظهر شباب العرب نضجاً سياسياً وقدرة على التحكّم في وسائل الإعلام الرقمي، خصوصاً الشبكات الاجتماعية، مثل «فايسبوك» وتويتر»، لجعلها سلاحاً في التوعية والتنظيم سياسياً، ومواجهة طبقات متكلِّسة من الفساد، مالياً واجتماعياً وسياسياً. ضرب هذا الشباب صورة نمطية أظهرته كسولاً ومكتفياً -كأسلافه- باستهلاك التقنيات والسلع. انكسرت هذه الصورة مرّة واحدة وإلى الأبد. اندلعت مواجهة بين يفاعة الشباب في مواجهة عجائز حاكمين (مبارك 83 عاماً، بن علي 75 عاماً، والقذافي 69 عاماً)، وظهر شباب العرب في صورة تُذكِّر بمتمردي بريطانيا 2011، في ارتداء ملابس «كاجوال»، مع إلحاقها بالخليوي والكومبيوتر المحمول. في المقابل، انغمس بعض الحكّام العرب في طب التجميل، فتحت شعار «نيو لوك» الذي أطلقه مبارك، صبغ غير حاكم عربي شعره، وأسلم خدوده لمباضع عمليات تجميل ضد التجاعيد. النتيجة؟ صار الحُكّام أشبه بصورة ديناصورات فرّت لتوها من شاشات سينما ستيفن سبيلبرغ في «الحديقة الجوراسية»! تشوّه وجه القذافي من الإفراط في عمليات التجميل وحقن البوتكس. وما فصل بين شباب «الربيع العربي» والحُكّام لم يقتصر على العمر، إذ تعدّاه إلى التكنولوجيا بأنواعها. لنذكر أن أصحاب الكراسي انشغلوا في عمليات التوريث أيضاً، ما يعتبر عودة الى بيولوجيا التناسل البدائية كوسيلة لتداول السلطة في القرن ال 21! أثبتت الشريحة الحاكمة عربياً أن التكنولوجيا الوحيدة التي تتقنها هي السلاح الذي تستورده لتخويف شعوبها وقمعها وقتلها. لم تكن هذه الشريحة بارعة في التضليل الإعلامي مثلاً، إذ عاشت عقوداً على فزاعة الإرهاب الذي يستهدف الغرب ويضرب علاقة العرب معه. أما إذا رفض الغرب هذه الفزاعة وإنحاز الى الشعوب، فإنه يصبح مصدراً لمؤامرة لا نهاية لها. لم يظهر حُكّام العرب لحقيقة أنهم يعيشون في عصر العلوم والتكنولوجيا، ما يفرض تبني الديموقراطية وسيلة لضمان التنمية والتطوّر والحفاظ على المصادر الطبيعية، والانخراط مع بقية الشعوب في درء كوارث البيئة. وتؤكّد علوم الوراثة أن كثيراً من الامراض والعيوب الجسدية والنفسية تنتقل بالوراثة. كلما جرى التوارث في حلقات ضيّقة، زاد إمكان ظهور التشوّهات، فهل يفسر هذا الأمر ظهور التشوّهات سياسياً عند القذافي وسيف الإسلام مثلاً، أم أن الأمر يرتبط بثقافة النخب الحاكمة المتكلسة؟ في تاريخ الغرب، أن بعض أسر الحكم في أوروبا القديمة، زادت فيها العيوب فيزيولوجياً، مثل زيادة المُصابين بمرض ال «هيموفيليا» Hemophilia بين أعضاء أسرة آل رومانوف في روسيا. وبالاسترجاع، لم يكن هذا سوى مقدمة لانهيار سلطاتها. هل باتت الأمور عربياً قريبة من وصف مُشابه؟ الأرجح أنه يتوجب على الدول العربية التعمّق أكثر في علوم الإحاثة (التاريخ التطوّري للكائنات الحيّة) والجيولوجيا، للتعرّف الى تاريخها بصورة محسوسة أكثر. ليس الأمر جزافاً، لنتذكر الضجّة الهائلة التي أحدثها طه حسين حين تأمل الشعر الجاهلي في كتابه الشهير الذي حمل العنوان عينه، إذ بدا له أنه شعر أشد نضجاً من الزمن الذي ينسب إليه، ما أوجب عدم التسليم بالتراث الشفوي العربي من دون إعمال النقد فيه. ثمة شيء آخر. تتطلب المهن عموماً كفاءة ممارسيها وسلامتهم بدنياً وعقلياً، لكن منصب الحاكم العربي يبدو استثناء من هذا الأمر. لا يتطلب هذا المنصب سوى الوجود في كرسي الحكم فعلياً، أو الولادة لأب موجود في السلطة، حتى ولو كان حاكماً في نظام جمهوري. تعتبر مهنة ربّان الطائرة صعبة، إذ تتطلب أن يكون طالبها رابط الجأش ومتوازناً نفسياً ومتوثِّباً في قوة حواسه وتوقّد ذهنه. ماذا عن ربّان شعب بأكمله؟ ربما ليس صدفة أن تتطلّب حملة الانتخابات الرئاسية في أميركا، القدرةَ على تحمّل ماراثونات من التنقل بين ولاياتها، وتقبّل ضغوط ضخمة نفسياً وذهنياً، من لقاءات متنوّعة، تصل ذروتها في المناظرات التلفزيونية، حيث يفوز الاكثر قوة وصبراً واقناعاً وتمرّساً، والأقل أخطاء، والاكثر ذكاء وأدباً وحنكة وحضورَ بديهة، إضافة الى مواصفات العمر والشكل. تبدو هذه الجهود كأنها امتحان عسير لاختيار الأحسن، فكأنها نوع من قوانين الاصطفاء الطبيعي سياسياً political natural selection. هل كان فرانكلين روزفلت شبه المُقعد استثناءً؟ الأرجح أن لا، لأن قوة إدارته لدخول أميركا الحرب العالمية الثانية تثبت صلابة ضخمة في إرادته وعقله وتفكيره.