في العام 1895 كان أوسكار وايلد وصل إلى أقصى درجات رغبته في تصفية حسابه مع مجتمع لندن المخمليّ، وبالتالي مع الملكة فيكتوريا التي كانت فرضت على ذلك المجتمع قيماً أخلاقية وسلوكية جعلت النفاق عملة رائجة والفساد كامناً تحت أقنعة الطيبة والتهذيب. وكانت تجربة وايلد الفرنسية والأوروبية فتحت عينيه على حقائق في الحياة جديدة. وهكذا في الوقت الذي كان فيه صاحب «صورة دوريان غراي» أضحى «عدو المجتمع الرقم واحد» بالنسبة إلى الملكة الطهرانية ومجتمعها «المثالي»، المنافق في حقيقته، قرر وايلد أن الوقت حان لكي يوجه إلى هذا المجتمع ضربة قاضية تربط بين الفساد السياسي والفساد الأخلاقي، بين حقائق الداخل ورياء الخارج في بوتقة واحدة. وهكذا ولدت في ذلك العام، وقبل رحيل وايلد بخمسة أعوام تلك المسرحية التي ستعيش طويلاً من بعده، مسرحية «زوج مثالي» التي يرى فيها البعض عملاً فنياً شديد الإتقان أبدعه كاتب أصبح متمكناً من حرفته، فيما رأى فيها آخرون، اضافة إلى ذلك، قطعة أدبية رائعة تكاد تكون وصية الكاتب الفنية والأخلاقية في آن معاً. ورأى هؤلاء، دائماً، أن هذا البعد الأخير إنما يتجلى في حوارات «زوج مثالي» بأكثر مما يتجلى في حبكتها. وهنا قد يكون من المفيد أيضاً أن نذكر أن وايلد كتب هذه المسرحية، ثم ألحقها على الفور بمسرحيته الكبيرة الأخرى «مروحة الليدي وندرمير»، والتي لا تبتعد عنها كثيراً من حيث البعد الأخلاقي، في زمن كان يعيش فيه أزهى سنوات انتصاراته الأدبية، وعدداً من المشكلات والفضائح التي أثارها في وجهه - مستغلاً كراهية الملكة والسلطات له - المركيز كوينزبري، والد صديقه لورد الفريد دوغلاس، ما أدى عامذاك إلى «بهدلته» في أوساط المجتمع الراقي ثم إلى سجنه. ومن الواضح أن ما حصل لوايلد على أيدي ذلك المجتمع الراقي كان هو ما حرّك قلمه لكتابة «زوج مثالي». غير أن المدهش في الأمر هو أن كاتبنا لم يبد هنا أي قسط في الرغبة في الانتقام: كل ما في الأمر انه كتب ليفضح، وبالتالي ليدعو إلى التسامح وكأنه يقول: «من كان منكم بلا خطيئة ليرمني بحجر!». محور مسرحية «زوج مثالي» يتمركز من حول ثنائيتين: فمن ناحية هناك الزوجان سير روبرت شيلترن وزوجته، ومن ناحية ثانية هناك صديق هذه العائلة الصغيرة لورد آرثر غورنغ، تقابله سيدة المجتمع، المفتقرة إلى المثل العليا والسمات الأخلاقية، مسز شفلي. أما الحبكة فتدور من حول مناورات ومؤامرات سياسية واقتصادية تتعلق بفضائح مالية من النوع الذي بدأ يتكاثر في بريطانيا عند نهاية القرن التاسع عشر، ويكاد يصبح قاعدة في الحياة السياسية، ولكن من دون أن يعترف احد بوجوده. انه القناع الذي كان يغلف كل شيء، ويحتاج بالتالي إلى من يكشفه. وفي هذه المسرحية، ها هي المسز شفلي تتنطح للقيام بدور الكاشف، ليس بسبب حرصها على أخلاق المجتمع بالطبع، بل لأن لديها هي مصالح في ذلك. مصالح تحتم عليها أن تدمر المعبد على نفسها وعلى الآخرين إن لم تصل إلى مبتغاها. والحقيقة انه إذا حدث ودمرت المسز شفلي «المعبد» فإنها، هي، لن تخسر في ذلك شيئاً، وبالتحديد لأن سمعتها في المجتمع هي من السوء بحيث لن يؤثر فيها مزيد من السوء. أما بالنسبة إلى الزوجين شيلترن فالأمر مختلف كلياً. فهو سياسي مرموق تبدو الأنظار متفتحة عليه تراقب حركاته وسكناته، تماماً مثلما يحدث عادة مع ذلك الصنف الناجح، باكراً، من السياسيين، الذين يصعدون ويصعدون في المجتمع... والذين ينظر اليهم هذا المجتمع عادة، نظرة هي مزيج من الإعجاب، وإحصاء الأنفاس والخطوات. انه السلوك العام، لذلك يبدو الواحد من هؤلاء الصاعدين الناجحين وكأنه يمشي في رمال متحركة أو على حبل مشدود، إذ إن أي هزة تكون قادرة على إسقاطه من أعلى وعلى تدمير سعادته الزوجية وحياته العامة (ولنا حديثاً في حكاية السياسي الفرنسي دومنيك ستروس-كان، عبرة في هذا حيث نجد مستقبله السياسي يتدهور على رغم تبرئة القضاء له من اتهامات جنسية ظالمة). وهذا الأمر أدركته المسز شفلي منذ بداية المسرحية، أي منذ اللحظة التي نطل فيها، نحن المتفرجين، على حياة الزوجين السعيدين شيلترن، ليواجهنا الزوج تحت قناع الرجل النزيه الذي حقق مساره السياسي بكل إتقان ونجاح، إلى درجة أن كل أصدقائه يكنون له خالص الاحترام، كما أن زوجته تحبه بكل جوارحها وهي ترى فيه الزوج المثالي والرجل الكامل والإنسان ذا الذكاء غير المحدود. غير أن هذه الصورة، العامة والخاصة، للورد شيلترن تبدأ بالاهتزاز، بالنسبة إلى المتفرجين على الأقل، منذ اللحظة التي تظهر فيها تلك السيدة المغامرة المسز شفلي، وقد أمسكت بين يديها وثائق تثبت أن الثروة التي حققها شيلترن لم تتحقق بطرق شريفة، بل بلصوصية حاذقة وبأساليب غير نزيهة على الإطلاق. إن اللورد شيلترن ليس الشخص الذي تعتقدون!... هذا ما سعت السيدة إلى قوله استناداً إلى ما تملك من وثائق، لا سيما استناداً إلى رسالة من نوع خاص. وإذ تهدد شفلي اللورد فلا يستجيب إلى تهديدها مستخفاً بها، تنتهي الرسالة المذكورة إلى الانتقال من بين يدي المسز شفلي إلى يدي الليدي شيلترن. فإذا بهذه تنهار تماماً: لقد أدركت على الفور حقيقة زوجها و«مثاليته»، وها هي بالتالي تفقد في الوقت نفسه، سعادتها الطاغية وثقتها في هذا الرجل الذي كان يملأ عليها حياتها ووجدانها. وهكذا لا يكون أمامها إلا أن تبادر إلى تحطيم حياتها الزوجية وسعادتها مشمئزة حزينة وهي على قاب قوسين وأدنى من الانهيار. غير أن هذا كله لن يحصل. ذلك انه إذا كانت المسز شفلي بادرت إلى اثارة الفضيحة أمام الليدي من حول زوجها، فإن اللورد آرثر غورنغ موجود أيضاً... ومنذ أول الأحداث، إذ إننا باكراً كنا أدركنا كم أن هذا الفتى اللاهي، الحاضر عميقاً في صلب حياة المجتمع اللندني، يخفي خلف سماته اللعوب، فيلسوفاً ورجل أخلاق وفضيله لا مثيل له. وهنا عند هذه اللحظة من المسرحية، حين تصل حياة الليدي شيلترن إلى الحافة، يجد غورنغ أن عليه أن يتدخل لوضع الأمور في نصابها عبر حبكة بديعة، ولكن أيضاً بفضل سلسلة من التدخلات اللفظية التي تقول قوة الكلام، وبخاصة عبر عبارة أثيرة لديه فحواها أن الإنسان الذي هو، في طبعه، ضعيف وبائس أخلاقياً، يحتاج حقاً إلى قدر كبير من التسامح، يحتاج إلى التفهم الخيّر، اكثر مما يحتاج إلى الإدانة. وهكذا ينقذ اللورد غورنغ حياة صديقيه الزوجية في دعوة حاسمة وطيبة إلى التسامح والتفهم المتبادل. وتنتهي هذه المسرحية التي بنيت أصلاً انطلاقاً من هذا المفهوم. من الواضح أن الحوارات والعبارات التي وضعها أوسكار وايلد على لسان بطله، إنما تعبر عن أفكاره هو، حرفياً، وكذلك عن عمق احتياجه هو نفسه إلى الحنان والتسامح في سنواته الصعبة تلك، لكن وايلد لم يفته في الوقت عينه أن يكشف السر عن مجتمع النفاق والرياء، بخاصة أننا في معظم لحظات المسرحية نجدن أنفسنا ميالين إلى التعاطف مع المسز شفلي، على رغم خبث مناوراتها. ولعل هذا ما زاد من طين أوسكار وايلد بلة، هو الذي حين قدمت المسرحية في لندن، كان على وشك الذهاب إلى السجن حيث سيمضي عامين يخرج بعدهما مريضاً ليعيش سنوات اخرى لا أكثر. ولكننا نعرف أن عزاءه كان في انه عاش حتى شهد موت غريمته الرئيسة الملكة فيكتوريا التي مرضت وماتت في العام نفسه الذي مات هو فيه 1900. وأوسكار وايلد، الكاتب الإنكليزي الذي ولد في دابلن ودرس فيها قبل أن ينتقل لمتابعة دراسته في أكسفورد لاحقاً، لم يعش طويلاً، إذ مات في السادسة والأربعين. لكن ذلك كان كافياً له لكي يكتب العديد من الروايات والمسرحيات ويعيش حياة صاخبة ويتنقل في العديد من البلدان الأوروبية ويقارع فيكتوريا مقارعة الند للند. ومن أشهر مسرحيات وايلد، إلى ما ذكرنا «فيرا أو العدمي» و«دوقة بادوا» و«مروحة الليدي وندرمير» و«سالومي»... الخ. [email protected]