«ليس ثمة ما هو كتاب أخلاقي أو كتاب لا أخلاقي. فالكتب إما أن تكون مكتوبة بشكل جيد أو مكتوبة بشكل سيء... وهذا كل ما في الأمر». هذا القول الذي اعتبر منذ تفوه به أوسكار وايلد ثم صاغه بنفس هذه الكلمات في مقدمة الطبعة الأولى، ككتاب لروايته الوحيدة «صورة دوريان غراي»، صار منذ ذلك الحين قولاً مأثوراً، يدور النقاش حوله في كل مكان وزمان بين دعاة حرية الفكر وأنصار التزمت. أما صدور هذا الكلام عن أوسكار وايلد فلم يكن من قبيل الصدفة، بل انه جاء منه تعليقاً على الهجوم الساحق الذي تعرضت له تلك الرواية، حين نشرت للمرة الأولى في عدد خاص من المطبوعة الأدبية «ليبنكوتز ماغازين» عام 1890. حيث إن هذه الرواية، ومنذ ظهورها هذا، هوجمت بقوة على اعتبار أنها رواية فضائحية لا اخلاقية. والحقيقة أن الدافع الرئيس لمعاملة الرواية على هذا النحو، لم يكن موضوعها أو أسلوب كتابتها على رغم أن هذين يقعان عند حافة الخطوط الحمر، بل شخصية كاتبها واسمه، هو الذي كان مثار جدل كبير في انكلترا الفكتورية (نسبة الى الملكة المتزمتة فكتوريا) في ذلك الحين. ويقيناً أن هذه الرواية لو كتبها آخر، أو لو ظهرت تحت اسم مستعار لمؤلفها، لما كانت أثارت الضجيج السلبي، بل ربما كانت أثارت اعجاباً عاماً. فهي، بعد كل شيء، رواية قوطية غرائبية من النوع الذي كان يستهوي عامة القراء في ذلك الزمن الروائي بامتياز، الزمن الذي كان قد بدأ ينفتح على شتى التجارب الأدبية ويتقبلها. والحقيقة أن «صورة دوريان غراي» كانت رواية ممتعة تنتمي الى حس تجريبي، من دون أن تبتعد كثيراً عن الحس الشعبي. ومن هنا النجاح العام للرواية لاحقاً، أي بعد أن نسي الموقف من مؤلفها، لتصبح من كلاسيكيات الأدب الغرائبي، وتتحول، تحت وقع الإقبال عليها، الى أفلام صامتة ثم ناطقة في القرن العشرين، والى أوبرا ومسرحية وما الى ذلك. والحقيقة ان المرء، إن قرأ «صورة دوريان غراي» وتوقف عند أبعادها الحديثة، قد لا يصدق أبداً أن مؤلفها هو أوسكار وايلد، صاحب المسرحيات الاجتماعية الصارمة، والمواقف المجلجلة والمشاكسة على كل ما في مجتمعه من قيم وأفكار. أما حين التعمق في دلالات الرواية ومعانيها، فإن أبعاداً فلسفية وسيكولوجية ستظهر الى جانب أبعادها الاجتماعية التي تلوح من خلال رسم أوسكار وايلد لبيئة اجتماعية متشعبة وشديدة التعقيد. تبدأ أحداث «صورة دوريان غراي» في لندن التي يعود اليها دوريان غراي، ساعياً وراء استعادة، إرث له. وهناك، في خضم انشغاله بذلك الإرث، يرتبط بصداقة مع اللورد هنري ووتون، وهو شخص غريب الأطوار واسع النفوذ في الأوساط الأدبية والفنية، بأخذه تحت رعايته ويعرفه الى هذه الأوساط التي كانت في ذلك الحين متمركزة في الصالات والمطاعم والصالونات والمجتمعات في منطقة «ايست اند». ومن بين الذين يعرفهم ووتون على صديقه الشاب، والوسيم، الرسام بازيل هالوارد، الذي يسارع الى رسم لوحة لدوريان. وهذا الأخير ما إن يشاهد اللوحة وقد اكتملت، يقول صارخاً إنه على استعداد لدفع روحه كلها ثمناً لبقائه على الشباب والجمال اللذين تمكن الرسام من التقاطهما في شخصه ونقلهما الى اللوحة. وفي الوقت نفسه يتعرف دوريان غراي على الممثلة الشابة والجميلة سيبيل فان، بل انه يعرض عليها الزواج... بيد أن اللورد هنري ووتون ينهيه عن ذلك، بل يقترح عليه أن يتركها نهائياً. وهنا إذ ينظر دوريان الى صورته كما يفعل في كل يوم وكل حين، يفاجأ إذ يلاحظ في نظرته الى اللوحة قسوة لم يكن قد لمحها سابقاً. فيبدأ بالإحساس الغامض، بأن ثمة ما هو غريب في هذه اللوحة، ويتزامن هذا الإحساس مع مجيء جيم شقيق سيبيل ليخبره أن هذه الأخيرة قد انتحرت يأساً وحزناً... وإذ يهاجم جيم دوريان راغباً الانتقام منه، يجد نفسه مهاجماً من قبل واحد من أصدقاء دوريان الذي يبعده من طريقه. إثر هذا يلاحظ دوريان مذهولاً، أنه بقدر ما راحت أوضاعه تسوء، بدأت ملامحه في اللوحة تتبدل نحو مزيد من الاهتراء والقسوة والشر. وهنا لا يعود في إمكانه، إلا أن يبعد اللوحة من عيون ضيوفه وأصدقائه، واضعاً إياها في العلّية وقد أدرك الحال الغريبة التي بدأت تظهر، إذ، وربما كاستجابة غامضة للأمنية الإلهية التي كان عبر عنها حين قال إنه مستعد لدفع روحه ثمناً لبقائه جميلاً وشاباً، ها هو يبقى كذلك، فيما راحت ملامحه في اللوحة تشيخ وتزداد قبحاً. لقد أدرك أن ثمة الآن رهاناً فاوستياً يربحه لسبب غامض، وأن عليه ألا يجعل الناس يدركون كنه هذا الرهان، مكتفين بأن يرصدوا شبابه ووسامته الدائمين لا أكثر. هنا، عند هذا المستوى من تطور الأحداث، يستبد شيء من الاستغراب والقلق بنفس الرسام بازيل، الذي يبدأ طرح أسئلته على دوريان في صدد إخفائه اللوحة عن الأنظار بعدما كان فخوراً بها وبتأمل الأصدقاء والضيوف فيها. وإذ يلح بازيل على دوريان غراي كي يريه اللوحة، يرفض غراي ذلك، ثم يخضع في النهاية أمام الإلحاح، ويأخذ بازيل ليريه اللوحة، ثم يقتله، من دون أن يدرك أحد أنه فعل ذلك. ولاحقاً، إذ يحضر دوريان بكل هدوء، جنازة صديقه الرسام، لا يجد أمامه الآن، إلا أن يغادر انكلترا... وبعد ذلك بربع قرن، أي في عام 1916 يعود دوريان الى لندن. أما أول ما يدهش معارفه فهو واقع أنه لا يزال وسيماً وشاباً، لم تُحدث فيه السنين أي تغيير، ما يثير الكثير من الأسئلة الحائرة والتكهنات. وهو، بعد فترة من اللامبالاة الظاهرة، يبدأ بالسأم من ذلك كله، كما تبدأ المخاوف تستبد به، وكذلك الرعب من افتضاح أمره. وفي البداية نراه يرتاد الكنائس ممارساً اعترافات دينية يأمل منها أن تصفي روحه. وربما أيضاً أن تساعده على البقاء كما هو... وكذلك نجده في الوقت نفسه وقد نجا مرات من محاولات غامضة تجرى لفضحه، ثم - وهنا تصل الأمور الى ذروتها - تجري محاولة لاغتياله يقوم بها جيم، شقيق خطيبته السابقة المنتحرة سيبيل، غير أن المحاولة تفشل. بل ان جيم نفسه يقتل خلالها. وهنا عند هذه المرحلة يقع دوريان غراي في غرام إميلي، الصبية الحسناء ابنة صديقه القديم اللورد هنري. ويبدأ دوريان هنا التخطيط مع إميلي، التي تمتهن التصوير الفوتوغرافي، كي يهاجرا الى أميركا ليعيشا ولادة الأزمان الجديدة. وإذ يتنبه هنري الى ما يدور من حوله، يرتب حفلة وداعية لابنته وخطيبها. للوهلة الأولى تبدو الحفلة تكريمية، ولكن في الحقيقة، رتب هنري الحفلة فقط كي يتمكن، بطريقة أو أخرى، من الوصول الى اللوحة المخبوءة كي يتفحصها ويرى ما إذا كان ثمة سر مغلق عليه، يربط بين حال دوريان غراي وحال اللوحة. وإذ يدرك دوريان هدف هنري، يهاجمه راغباً التخلص منه... وإذ يكونان في العلية العتمة، عند حدوث هذا، يقوم هنري بفعل ما لم يكن عليه فعله: يضيء المكان، فتظهر اللوحة وقد بان دوريان المرسوم عليها عجوزاً، في أرذل العمر... وفي الثانية نفسها، وفيما تستعيد اللوحة تحت تأثير الإنارة ملامح دوريان الشاب الوسيم، تسرع الشيخوخة والقبح بالظهور على دوريان وقد استعاد الآن سنه الحقيقية. ويلي هذا على الفور انفجار غاز يدمر دوريان واللوحة في آن معاً. حين كتب أوسكار وايلد (1854 - 1900) هذه الرواية كان في السادسة والثلاثين من عمره، ووسط مرحلة أكثر فيها من كتابة القصص والمسرحيات في شكل استثنائي، مركزاً لفترة على كتابة قصص للصغار ومسرحيات اجتماعية. والحقيقة أنه كان أول المندهشين ازاء الهجوم الكاسح الذي تعرضت له روايته هذه، متسائلاً عن الأسباب الكامنة وراء مهاجمة رواية تنضوي ضمن سياق أدب الرعب الغرائبي، أكثر مما تنضوي ضمن سياق أدبه المسرحي الذي كان، دائماً، أكثر قسوة ومدعاة للمحاربة، لتصديه لعيوب المجتمع وارستقراطيته... [email protected]