ثمة أشياء كثيرة انتهت أو ضمرت، من الناحية العملية، في مسيرة الحركة الوطنية الفلسطينية، بهذا القدر أو ذاك، لكن من دون الإقرار بذلك في الثقافة السياسية. مثلاً، أين هو الكفاح المسلح اليوم؟ وما مصير شعار تحرير فلسطين؟ وماذا حصل لمنظمة التحرير؟ ويمكن تفسير حال الإنكار تلك بتغليب قيادات هذه الحركة للروح الشعاراتية، وتجنّبها الخوض في «الثوابت»، التي باتت بمثابة "مقدسات" (على رغم ارتكابها ذلك في الممارسة السياسية)، فضلاً عن بقاء الآباء المؤسسين لهذه الحركة في مواقعهم رغم كل التغيرات والتحولات الحاصلة في الحالة الفلسطينية وفي المعطيات المحيطة بها. وإذا أخذنا حالة الكفاح المسلح، مثلاً، يمكننا ببساطة ملاحظة أن هذا الشكل القديم للعمل الوطني الفلسطيني انتهى عملياً، حيث لم يعد في الخارج أي مجال لممارسته، إذ اختفت معسكرات الفدائيين وقواعدهم من على حدود البلدان العربية المجاورة لإسرائيل؛ حتى أن «حزب الله»، أي حزب المقاومة في لبنان، لا يسمح البتة بأي وجود فلسطيني مسلح في مناطق وجوده، خصوصاً في الجنوب اللبناني. المفارقة أنه وعلى رغم مرور ثلاثة عقود من الزمن على هذه الحقيقة (التي يستثنى منها بعض الوجود الفلسطيني المسلح في لبنان من خارج إجماع المنظمة)، إلا أن خطابات الفلسطينيين لم تتمثّل بعد هذا الواقع، في ثقافتها السياسية، لكأنه لم يحصل البتّة، على رغم أنها خضعت لإملاءاته تماماً، وعلى رغم أنها تكيّفت معه في إعادة هيكلتها لبناها. وحال الإنكار هذه تشمل، أيضاً، واقع تراجع المقاومة المسلحة في الداخل (الضفة والقطاع المحتلين)، رغم حدوث عملية هنا أو هناك بين فترة وأخرى، إذ إن الفلسطينيين اكتشفوا بثمن باهظ محدودية قدرتهم على الاستمرار في هذا الشكل من المقاومة، والكلفة العالية التي تجبيها من دمائهم وشكل عيشهم ومن قدرتهم على الصمود في أرضهم. وما يلفت هنا هو تحوّل حركة «حماس»، التي صعدت إلى السلطة ببرنامج المقاومة، نحو التهدئة، إلى حدّ ممانعة أي من أعمال المقاومة في قطاع غزة بعد سيطرتها عليه. ويأتي ضمن هذا الإطار استنكار عدد من قادة هذه الحركة العملية الفدائية في ايلات (أخيراً)، إلى حد التشكيك بها، واعتبارها تشكل ضرّراً على الفلسطينيين. أيضاً، فإن الظروف الدولية لم تعد تساعد أو تسمح بممارسة الكفاح المسلح (يدين بجزء كبير من واقع صعوده لصراعات «الحرب الباردة»)، لا سيما مع انكشاف العالم وانتظامه بفعل مسارات العولمة وتزايد وسائل السيطرة والهيمنة. ففي هذا الزمن لم يعد في الإمكان السماح بنقل السلاح الى جماعات غير نظامية، بل لم يعد من المسموح نقل السلاح الى دول قائمة بذاتها، حتى أن تحويلات الأموال وشبكات الاتصال باتت مكشوفة ومقيدة. عدا عن كل ذلك وبغض النظر عن رأينا بالقوى المهيمنة دولياً، فإن الرأي العام العالمي لم يعد يتقبل أعمال العنف، فضلاً عن انه بات يميل الى وصمها بالإرهاب، لا سيما مع انتهاج نمط العمليات التفجيرية ضد المدنيين. يستنتج من ذلك أن الظروف العربية والدولية المحيطة بالفلسطينيين، ومحدودية مواردهم الخاصة، لم تعد تسمح لهم بممارسة المقاومة المسلحة بالطريقة المتخيّلة، أو المرجوّة، والتي يمكن أن يتمخّض عنها تحقيق الغلبة على إسرائيل، أو انتزاع مكسب ما منها. ويجب ألا ننسى أن الحركة الفلسطينية عندما بادرت لانتهاج الكفاح المسلح لتحقيق أهدافها منتصف الستينات لم تكن تتوقع منه أصلاً تحرير فلسطين وحده، وإنما توخّت منه (وفق أدبيات «فتح») تحريك الجبهات العربية، وإدامة الصراع مع إسرائيل، ليس إلا، في حين أن حركة «القوميين العرب»، التي خرجت «الجبهة الشعبية» من رحمها كانت تشكّك في جدوى الكفاح المسلح من أساسه؛ وهي النتيجة التي وصلت إليها «حماس» أخيراً، من الناحية العملية. لا ينبغي أن نفهم من هذا الكلام نوعاً من التبرؤ من الكفاح المسلح، أو تشكيكاً بشرعيته، وإنما القصد هنا تقرير واقع حال، أي تقرير مآل هذا الشكل الكفاحي، الذي بات خارج معادلات الصراع مع إسرائيل، من الناحية الفعلية، من الداخل والخارج، في الضفة وفي غزة وفي مناطق 48؛ بغض النظر عن المزايدات الكلامية. وبنظرة تقويمية أولية ربما بات ممكناً استنتاج أن الكفاح المسلح الفلسطيني كان أتى ثماره في السنوات الأولى، بغض النظر عن كيفية إدارته. إذ إن هذا الشكل النضالي استطاع استنهاض الفلسطينيين من حال الضياع والتشتّت، ومكّنهم من وعي مكانتهم كشعب، كما نجح في وضع القضية الفلسطينية على رأس الأجندة العربية والدولية، وفي إثارة الشكّ حول المشروعية السياسية والقانونية والأخلاقية لقيام إسرائيل. في هذا الإطار ربما تصحّ عبارة «كل ما زاد عن حده انقلب ضده»، ذلك أن تشديد الفلسطينيين على انتهاج الكفاح المسلح كشكل وحيد لانتزاع حقوقهم، في ظل عدم وجود ظروف مناسبة، وبالنظر الى افتقارهم الى الموارد الذاتية والإدارة الرشيدة، أدى إلى تكبدهم خسائر فادحة، وإلى تضعضع بناهم السياسية، فضلاً عن انهم لم يستطيعوا مواصلة هذا الشكل. مع ذلك، فإن الاعتراف بوصول الكفاح المسلح إلى نهاية طريقه، لأسباب ذاتية وموضوعية، لا يفيد البتة بأن طرق الكفاح لاستعادة حقوق الفلسطينيين قد أغلقت أو استنفدت، كما قد يتصوّر البعض. وقد يمكن التجرؤ هنا على القول إن التجربة الفلسطينية شهدت، طوال العقود الأربعة الماضية، انحرافين، أولهما يتمثل بحصر خيار الفلسطينيين في المفاوضة؛ في استبعاد للخيارات السياسية الأخرى. وثانيهما، يتمثل بحصر المقاومة بالكفاح المسلح؛ في استخفاف بأشكال المقاومة الشعبية. بين هذين الأمرين مروحة واسعة من خيارات المقاومة التي تبدأ بتأطير الشعب وتنظيم طاقاته وتعزيز قدرته على الصمود إلى خوض المقاومة المدنية وصولاً الى الهبّات والانتفاضات الشعبية التي تبدو أكثر ملاءمة لإمكانات الفلسطينيين، وأكثر تناسباً مع المناخات العربية والدولية؛ وهي أشكال أثبتتها الثورات الشعبية في البلدان العربية كما تجربة الفلسطينيين في انتفاضتهم الأولى. وما يعزّز هذا الخيار نشوء وضع دولي (وربما عربي أيضاً) يكبح عدوانية إسرائيل ويعرّضها للمساءلة ونزع الشرعية وهو وضع قابل للتطور في مقبل الأيام. أما مكابرة الفلسطينيين وإنكارهم لتدهور أحوالهم، وللمعطيات المحيطة بهم، فلا يفيدان شيئاً، بل يعمّقان مأزقهم، ويزيدان عجزهم عن تصور خيارات أخرى.