منذ زمن طويل ما عادت السياسة الفلسطينية تصدر عن رؤية سياسية استراتيجية (واضحة ومناسبة)، فقد تقوّض خيار التسوية، بنتيجة التملّصات الإسرائيلية، وبحكم ضعف الفلسطينيين، وتخلف إدارتهم. أيضاً، فإن مفاعيل خيار المقاومة المسلحة، لم تكن مآلاته وتداعياته وجدواه أحسن حالاً، بالخصوص على ضوء تجربة العشرة أعوام الماضية. دليل ذلك أن تيار المفاوضة والتسوية، وفي المقدمة منه حركة «فتح»، لم يتراجع فقط عن فكرة الدمج بين الانتفاضة والمقاومة (التي انخرط فيها بنشاط في الفترة بين 2001 و 2004)، وإنما قلّص حتى توقعاته من المفاوضات، إلى مجرد مطالبة إسرائيل بالعودة إلى الأوضاع التي كانت سائدة قبل انتفاضة العام 2000، وبتجميد الاستيطان في الضفة الغربية ولو لفترة موقتة. في مقابل ذلك فإن تيار المقاومة المسلحة، وفي مقدمته حركة «حماس»، بات غير قادر على الاستمرار في المقاومة، بل إن «حماس»، بدلاً من ذلك، انخرطت في مسار السلطة، الناشئة عن اتفاق أوسلو، ولو بثمن الاقتتال والانقسام في الساحة الفلسطينية! وبالمحصلة فقد دفع الفلسطينيون في الفترة الماضية ثمناً باهظاً لهاتين التجربتين، من دمائهم وتضحياتهم وعمرهم. اللافت أن لا «فتح» ولا «حماس» تقرّان بفشل طريقهما (المفاوضة والمقاومة)، وحتى أنهما لم تقدما على أية مراجعة نقدية لهاتين التجربتين، لتفحّص أوجه القصور فيهما، وتبيّن دور كل من العاملين الذاتي والموضوعي في عدم وصولهما إلى الجدوى المفترضة. الأنكى أن يحصل ذلك على رغم أن «فتح» (ومعها السلطة) باتت أكثر اقتناعاً من قبل، وتحت ضغط التجربة، أن طريق المفاوضات لا توصلها إلى شيء ملموس، قياساً بالتضحيات والتنازلات التي قدمتها. وأيضا على رغم أن «حماس» أدركت محدودية قدرتها، ذاتياً وموضوعياً، على الاستمرار بتحمل كلفة، أو تبعات، المقاومة المسلحة، ناهيك عن العمليات التفجيرية وعمليات القصف الصاروخي، وانشغالها عوض ذلك بترسيخ سلطتها في غزة. طبعاً لا نقصد هنا الإيحاء، بأي شكل، بأن المشكلة تكمن في أي من الخيارين (المفاوضة والمقاومة)، فبغض النظر عن تقييم هذين الخيارين، فإن المشكلة تكمن في الارتهان لشكل بعينه من دون آخر، وبعدم انتهاج خيار ما بناء على دراسة المعطيات السياسية وتبين الظروف المحيطة، والإمكانيات المتاحة، مثلما تكمن في كيفية إدارة هذا الخيار أو ذاك، وشكل ممارسته في حيز التجربة (وهذا شأن نقاش أخر). ثم إن هكذا استنتاجاً لا يعني أنه ينبغي على الفلسطينيين الاستكانة للاحتلال، بمقدار ما يعني أن عليهم ترشيد كفاحهم، والاقتصاد بطاقتهم، في صراع يفترض انه طويل وممتد ومعقد، وإخضاع أشكال نضالهم لإستراتيجية سياسية ممكنة ومناسبة، بدل تبديدها في ظروف غير مواتية، وفي معارك غير متوازنة، ودفعة واحدة. المفارقة أن الطرفين المهيمنين («فتح» و»حماس») وإن سلّما عملياً (مضطرين)، بعقم استمرار كل منهما بخياره السابق، بالثمن الباهظ للتجربة، إلا أنهما ما زالا يصران على الاستمرار كل بخياره الخاص، ووفق الطريق السابقة. هكذا تصرّ «فتح» (والسلطة) على أن لابديل من المفاوضات إلا المفاوضات(!)، في حين أن الواقع يؤكد أن موازين القوى، والمعطيات المحيطة، لن توصل إلى النتيجة المتوخّاة، وأن إسرائيل لن تتنازل طوعاً وبالمفاوضات للفلسطينيين. وبدورها تصرّ «حماس» على خيار المقاومة (بالشكل الذي تمّت به)، على رغم إنها نحت هذا الخيار عملياً، مكتفية بالحديث عن تمسكها بنهج المقاومة، وكأن ممارسة المقاومة ومجرد القول بها سيان! عدا هذا العنت، أو الجمود، فإن مشكلة الفلسطينيين تكمن، أيضاً، في عدم قدرتهم على توليد بدائل مناسبة للنهجين السائدين (في الممارسة السياسية أو في مجال الرؤية النظرية على الأقل)، إذا استثنينا الحديث اللفظي من بعض قيادات السلطة عن التحول من خيار الدولتين إلى خيار «الدولة الواحدة»، من دون أن يعني ذلك، أو يقصد، شيئاً محدداً، في الممارسة السياسية. في هذا المجال يمكن ملاحظة كم أن الساحة الفلسطينية مستغرقة في السياسة اليومية، وتفتقر لأي رؤية سياسية إستراتيجية أو مستقبلية، في تركيزها على المفاوضات مع إسرائيل، ورفع الحصار عن الفلسطينيين، ووقف الاستيطان، وانشغالها في الخلافات الفصائلية، وغير ذلك من الأمور الداخلية. ويمكن إحالة القصور المزمن عن توليد رؤى سياسية جديدة، وانتهاج خيارات بديلة ومناسبة، وابتداع وسائل نضالية مواتية، في الساحة الفلسطينية، لا سيما منذ أواخر عقد التسعينات، إلى ضيق أفق القوى المهيمنة، وتكلّس بناها، واستمرائها الهيمنة، كما إلى وجود فئات مستفيدة من استمرار الوضع الراهن. أيضاً، يمكن إحالة هذا الوضع إلى ضمور المشاركة الشعبية، وانكماش المجتمع المدني على ذاته، وانقطاعه عن الإطارات الفصائلية السائدة، التي باتت تضع مصالحها فوق مصلحة الشعب وقضيته. وفي الحقيقة فإن هذه الحالة الفلسطينية الشاذة (بالقياس إلى وضع حركة تحرر وطني) تشابه مسار المجتمعات التي تعيش في ظل هيمنة سلطوية، مفتقرة للإنجازات الوطنية، وعاجزة إزاء التحديات الخارجية، لاسيما مع بنية فصائلية، تسودها علاقات بطركية وزبائنية، وتفتقد لحراك داخلي، وتطغى عليها الأجهزة الأمنية، ومظاهر العسكرة، وكلها سمات تغطي بها عجزها وإخفاق خياراتها في مواجهة إسرائيل. في هكذا وضع فإن عملية تخليق رؤى وخيارات سياسية جديدة (تطال البنى والعلاقات والوسائل) جد صعبة ومعقدة ومضنية، بواقع أن القوى السائدة تتحكم بمسارات الحراك السياسي، وبموارد المجتمع، وتعمل على خنق، أو تقييد، أي ظواهر جديدة، ترى فيها بديلاً لسلطتها ونفياً لهيمنتها، ولو بعد حين. هذا الوضع يفسر غياب أية محاولات لتوليد حالة وطنية جديدة في الساحة الفلسطينية، جدية وشاملة وواعية، تشكل بديلاً، أو ممهداً لبديل، للوضع الفصائلي القائم. وهو ما يفسر، أيضاً، تخليق بعض الإطارات، بين فترة وأخرى، في هذه الساحة، بشكل عشوائي، وربما مفبرك، سرعان ما تتكشف عن تفريخات لبعض الفصائل المهيمنة، أو كامتداد لها، ما يسهم في إعاقة أي عمل جدي ومسؤول في هذا الاتجاه، تبدو الساحة الفلسطينية أحوج ما تكون إليه. * كاتب فلسطيني