في منزله المتواضع المشيّد على أحد المنحدرات المتعرجة في حي مهمش فقير يتبع منطقة الرصيفة، الملاصقة لمدينة الزرقاء، معقل التيار السلفي الجهادي الأردني ومنبته، يواظب الشيخ عصام البرقاوي الشهير ب «أبو محمد المقدسي» على استقبال أتباعه القادمين من معان وعمان والسلط وإربد وعدد من المخيمات الفلسطينية (وهي مدن وتجمعات أرسلت مئات من أبنائها للقتال في سورية والعراق وغيرها)، بعد أربع سنوات من الاعتقال أنهاها قبل أيام إثر إدانته بتهم «الإرهاب». «أبو محمد المقدسي» هو منظّر التيار السلفي الأردني ومرشده الروحي، وهو أيضاً أحد أبرز وجوه التيار على مستوى العالم. يصفه أتباعه الجهاديون وهم كثر ب «شيخ المنهج»، و «الإمام العالم المجاهد». «الحياة» زارت منزل المقدسي، وتمكنت من لقائه لساعات، بعد أن قضى عقوبته كاملة في سجن «ارميمين» الأردني، كما التقت عدداً من رفاقه ومريديه الأردنيين، الذين عاد بعضهم حديثاً من معسكرات القتال في سورية، فيما يعتزم بعضهم الآخر شد الرحال إلى العراق مرة أخرى، حيث يتهيأ «إخوان» لهم هناك من بينهم أردنيون إلى إنجاز حلمهم الموعود بإعلان «دولة الإسلام». في منزله الذي يعد واحداً من مئات منازل الحي المكتظ، التي تشكل كتلاً طينية مبنية فوق بعضها بعضاً، التقى المجاهدون السلفيون في ذلك المساء من الأسبوع الجاري، مهنئين الشيخ وأنفسهم بإطلاق سراحه. وفي غرف صغيرة خصصت لاستقبال الزوار، جلس هؤلاء يتجاذبون أطراف الحديث مع شيخهم، الذي استضافته السجون الأردنية لأكثر من 16 سنة منذ العام 1993. اللقاء كان أشبه بكرنفال احتفالي على الطريقة «الجهادية». فداخل تلك الغرف وضعت مقاعد بلاستيكية خضراء اللون، لتتسع لأعداد كبيرة من الوافدين، وهم شيوخ وشبان أطلقوا لحاهم وشعور رؤوسهم، وارتدى بعضهم ثياباً طويلة بيضاء (الدشداش)، وآخرون الثوب الأفغاني، وهو اللباس الذي اشتهر به الأفغان الأردنيون، الذين قاتلوا على فترات متباعدة تحت راية «القاعدة» في أفغانستان، ذلك البلد الذي احتضن لعقود ألوف الجهاديين من مختلف الدول، ومثّل الأردن أحد خزاناته السلفية المقاتلة. في منزل المقدسي أيضاً، برز شبان في مقتبل العمر، كانوا يرتدون ملابس عسكرية، وكانت ضفائر وجدائل من شعورهم تتدلى على أكتافهم من تحت عمائم وقبعات سود. بعض هؤلاء كان آتياً للتو من معاقل القتال، قال أحدهم متحدثاً إلى «الحياة» إنه تعرض لإصابة بالغة ألزمته العودة إلى الأردن لتلقي العلاج، ورفض آخر الإفصاح عن أسباب عودته، وتمنّع ثالث عن الحديث، لدواعٍ أمنية، كما قال. وسط هذا المشهد، كان بعض أبناء «أبو محمد» وأشقائه يطلّون بصوانٍ مستديرة عليها أطباق حلوى (الكنافة النابلسية) وعبوات من العصير البارد. كانت هذه الصورة تعبيراً عن احتفاء العائلة بالضيوف المهنئين. أحد هؤلاء الضيوف كان شاباً عشرينياً يدعى قتادة، وهو الابن البكر لرجل الدين البارز عمر عثمان، الذي يحاكم في الأردن بتهم «الإرهاب» منذ ترحيله من لندن إلى عمان في تموز (يوليو) الماضي، وينتظر أن يصدر الحكم عليه نهاية الشهر الجاري. كانت هذه المرة الأولى التي يظهر فيها قتادة، وقد ارتدى دشداشة طويلة بنيّة اللون وأطلق لحيته، في مناسبة علنية لأتباع التيار الجهادي الأردني، منذ عودته من بريطانيا. مع قتادة تعانق المقدسي وقتادة عناقاً حاراً سرق أعين الحاضرين. وجلس نجل عثمان (الذي طالب تلاميذه من داخل السجن بالامتثال لفتاوى المقدسي) إلى جوار «أبو محمد». استقبل معه المهنئين، وتبادلا أطراف الحديث. لم تفارق الابتسامة وجه المقدسي على رغم طول اللقاء، لكنه كان حزيناً على فراق زوجته التي توفيت أثناء مكوثه في السجن، وأول عمل قام به عقب الإفراج عنه كان التوجه إلى قبرها. وللحزن أسباب أخرى لم يفصح عنها الرجل، فإطلاق سراحه جاء على وقع انقسام واقتتال حاد بين جناحي التيار في سورية (تنظيم الدولة وجبهة النصرة). هذا الانقسام وجد طريقه إلى صفوف «إخوانه» الأردنيين. صحيح أن مشاعر الفرح بإطلاق المقدسي كانت تطغى على المكان، لكن وجوه الضيوف كانت تخفي شيئاً ما. فبعض الرجال الحاضرين يتبعون جبهة النصرة ويبذلون من أجلها الغالي والنفيس، وآخرون يتبعون تنظيم الدولة، لم يستطيعوا إخفاء فرحهم من التقدم «المفاجئ» الذي حققه هذا التنظيم على مدى الأيام الماضية في العراق، لكنهم كانوا يبتعدون عن أعين الإعلام. لم يكن حضور المؤيدين لدولة الشام والعراق مفاجئاً لدائرة المقدسي الأقرب، الذي أظهر مواقف متشددة وغير مسبوقة تجاه أبو بكر البغدادي ودولته عندما كان معتقلاً. قالها أحد منظّري التيار في مدينة السلط خاصرة عمان العشائرية التي تبعد منها 20 كليومتراً فقط، والتي قتل العشرات من أبنائها في معارك «القاعدة» خارج الأردن: «قدومهم ليس مفاجئاً (...) ربما يسعون للتأثير في الصورة التي وضع فيها الشيخ عن ممارسات الدولة، بخاصة أن كثيرين منهم يرون أنه ربما أبلغ بمعلومات مغلوطة أثناء وجوده في السجن». وأردف بصوت خافت: «بعض هؤلاء يريد التأكد من أن الشيخ لم يتعرض لضغوط في ما قاله، وبعضهم يريد إظهار صورة أخرى، وآخرون مغيّبون يبحثون عن الحقيقة. وهؤلاء جميعاً يعلمون جيداً أن المقدسي مرجعية هامة لا يستطيعون تجاوزها». ومضى يقول: «سيسعى المقدسي إلى رأب الصدع وإلى نزع فتيل الأزمة بين اعضاء التيار الذين نال منهم الخلاف (...) وعلينا أن نعترف بأن التيار يشهد انقساماً حاداً، وأولوية الشيخ الأولى كما أكد لنا فور إطلاقه هي رص الصف وترتيب البيت الداخلي». هذا البيت بدا مبعثراً، وبحاجة إلى من يعيد إليه التماسك، فأجواء الارتباك والاحتقان المكتوم كانت حاضرة وإن بشكل خفي. لكن أحد الشيوخ المسنّين وقف على الملأ، وطالب المقدسي بأن يمنع الحضور من التطرق إلى الخلافات بين جناحي التيار، على اعتبار أن المناسبة غير مخصصة لمناقشة مثل هذه الأمور. الرجل الذي يدعى «أبو عبدالله»، ويبدو أن المرض قد تمكن منه إذ كان يؤدي الصلاة على مقعد بلاستيكي، أشار إلى زاوية كانت تجلس فيها مجموعة من الشبان يتحدثون بصوت خافت عن مظاهر الخلاف، بين مؤيد لنهج الدولة ومناصر للجبهة. لكن المقدسي كان حريصاً على عدم إذكاء الخلاف في ذلك اللقاء. تفهم مطالبة الرجل الذي بدا أنه من أبرز المؤيدين لنهج تنظيم الدولة، وقال ممازحاً ومخاطباً الجميع: فلنطوِ الكتاب ونضعه على الرف. الحرص الذي أبداه المقدسي على عدم الخوض في الانقسام ولو مرحلياً، وصل إلى حد رفضه الحديث إلى عدد محصور لا يتجاوز أصابع اليد من الصحافيين الذين سمح لهم بحضور اللقاء، رافضاً كذلك التحدث عن رسائله الأخيرة التي حملت انتقادات لاذعة وغير مسبوقة لتنظيم الدولة، واكتفى بالقول إنه سيسعى الى استقراء الواقع قبل أن يعلن أي موقف. «الجهادي» البارز منيف سمارة، القادم من الزرقاء (خزان السلفيين الفلسطينيين)، والذي يعتبر الحلقة الأقرب إلى المقدسي، فسر امتناعه عن الحديث بالقول إنه «آثر عدم التحدث في هذه المرحلة بالذات لأنه في فترة جمع معلومات، وهو يريد أن يتبين الكثير من الحقائق». وأضاف: «أولوية الإمام المجاهد حالياً، هي إعادة ترتيب ولملمة صفوف التيار، بعد الخلافات التي شهدتها الساحة الجهادية خلال الفترة الماضية». وتابع: «الإخوة المجاهدون ينتظرون بفارغ الصبر أن يعيد الشيخ رص صفوفهم». وما من شك في أن التيار الجهادي في الأردن منقسم على نفسه، على رغم أنه بات رقماً صعباً في المعادلتين الإقليمية والدولية. وجاء حديث سمارة منسجماً مع ما قاله زعيم السلفيين في جنوبالأردن محمد الشلبي الشهير ب «أبو سياف»، الذي يحفظ الكثير من أسرار المقدسي ويعد الأقرب إليه عندما كان في السجن، وهو كان مسؤولاً عن استقبال رسائله وتسريبها إلى الإعلام. الشلبي الذي جاء مسرعاً من مدينة معان الغائرة في عمق الصحراء (160 كيلومتراً جنوبعمان) مع عدد كبير من «الجهاديين» إلى بيت شيخه المقدسي، سارع إلى وصف الأخير ب «شيخ المنهج»، وبادر إلى تهنئة «الأرض جمعاء» بالإفراج عنه، وتمنى أن يفك الله «أسر الموحدين في سجون الأردن وسجون الأرض». قالها «أبو سياف» في شكل حاسم: «العالم كله ينتظر كلمة من الشيخ المقدسي، وبخاصة أهل التوحيد الذين يعتبرونه إمام المنهج وينتظرون أي توجيه منه (...) إن قال لنا سيروا يميناً سنسير، وإن قال غير ذلك سنفعل». بانتظار بيان حاسم وعن الانتقادات التي وجّهها المقدسي الى تنظيم الدولة خلال مكوثه في السجن، قال «أبو سياف» إن «الشيخ المقدسي أصدر بعض البيانات حول الوضع في سورية، وشكك البعض في صحتها». وأضاف أن «الجميع ينتظر بياناً حاسماً من المقدسي حول ما إذا كان سيثبت على ما صدر عنه، أو يعلن أن المعلومات التي كانت تصله مضللة». لكنه أردف: «يقيننا أن الشيخ ليس من الذين يتم خداعهم، وحتى أثناء وجوده في السجن كانت الصورة واضحة لديه جداً». وقد استطاع «أبو سياف» الذي التف حوله كثيرون من «الجهاديين» في ذلك اللقاء، أن ينتزع تأييداً واسعاً في أوساط الشباب المهمشين جنوبالأردن، فقد قضى عشر سنوات وراء القضبان بسبب نشاطات مرتبطة بالسلفيين الجهاديين، بما في ذلك مؤامرة لمهاجمة قوات اميركية في الأردن، لكنه لا يكترث في ما يبدو انه خاضع للمراقبة. وقد شارك في اشتباكات مسلحة مع قوات الامن عام 2002، الأمر الذي أكسبه التعاطف وحماسة أعضاء التيار من فئة الشباب. ويقول الخبير في شؤون التيارات السلفية، حسن أبو هنية، الذي انتقل من صفوف الجهاديين إلى صفوف المتخصصين في عالم «القاعدة»: «علينا أن ندرك جيداً أن المقدسي يتأثر بالواقع، وأن زلزال العراق الذي تصدره الداعشيون جعل كثيراً من الجهاديين وعلى رأسهم المقدسي نفسه يتريث ويأخذ قسطاً وافراً من الوقت لإعادة حساباته، بعد أن حسم أمره باتجاه دعم جبهة النصرة». وأضاف: «هؤلاء لا يريدون الظهور وكأنهم أعداء لسنّة العراق، لا سيما بعد أن نجح «داعش» في كسب مجاميع كبيرة من أهل الطائفة السنية هناك، بل وتمثيلها». وتابع: «الأرجح أن المقدسي سيراجع مواقفه التي أعلنها داخل السجن، وسينتظر تطورات الوضع في العراق وربما ردود الأفعال (...) خلال الأيام الماضية بدا أن لهجة الجهاديين عبر مواقع التواصل الاجتماعي تتغير عند الحديث عن دور الدولة الإسلامية في العراق والشام والموقف منها، باستثناء بعض المتشددين في مواقفهم، وكل ذلك سببه التطورات المفاجئة التي يشهدها العراق». ويرى أبو هنية أن «حرص أنصار الدولة الأردنيين على الحضور إلى منزل المقدسي يعكس رسائل ود يرسلها التنظيم (الذي يفتقر إلى شرعيين كبار) باتجاه المرجع الشرعي المعتبر، ويؤكد سعي الدولة إلى كسب وده في أحسن الأحوال أو إسكاته وتحييده في أسوأ الظروف»، معتبراً أن صمته «قد يطول». لكن الباحث في الحركات الإسلامية وائل البتيري، الذي يعمل في صحيفة «السبيل» القريبة من الإخوان المسلمين، يرى أن «موقف المقدسي من تنظيم الدولة الإسلامية ثابت لا يتغير، وأنه كان يؤكد مراراً أنه يبني آراءه تجاه ما تشهده سورية على أخبار ثابتة ينقلها له الثقات». يقول: «المؤكد أن المقدسي في هذه الفترة يريد أولاً أن يوفق أوضاعه الأسرية بعد وفاة زوجته، إضافة إلى ترتيب البيت الداخلي للتيار، حيث إن الاختلاف في الرأي أحدث انقساماً وشروخاً في بنية السلفيين الأردنيين، وهو لا يريد أن يبدأ خروجه من السجن بتوسيع دائرة الخلاف، وحدوث احتكاكات داخل التنظيم». ويضيف أن «المقدسي اتهم من جانب أنصار تنظيم الدولة بأنه تبنى موقفه الرافض لتصرفاتها أثناء وجوده في الأسر، والأسير لا يؤخذ بكلامه لأنه غير مطلع على حقيقة الواقع على ما يقولون، فهو يريد أن يدحض هذه التهمة بالتروي قليلاً حتى إذا ما أصدر رأيه الحاسم؛ لم يعد لديهم حجة في قولهم إنه أسير». المقاتلون في سورية ويتوقع البتيري ألا تستمر فترة الصمت كثيراً لدى المقدسي، ويقول: «المتوقع أن يحسم موقفه في مدة أقصاها شهر واحد». ويشجع التيار السلفي الجهادي في الأردن على تدفق مقاتليه إلى سورية، والانخراط في المواجهات مع قوات الرئيس بشار الأسد. وهناك أكثر من ألفي مقاتل أردني توزعوا على الكتائب التابعة لجبهة النصرة وتنظيم الدولة، وقتل منهم العشرات وفق قيادة التيار. وتحاول الحكومة الأردنية منع هؤلاء من عبور الحدود للانضمام إلى المعارك، التي طال أمدها. وكانت السلطات اعتقلت مئات السلفيين قبل تمكنهم من الوصول إلى سورية، ويحاكم بعضهم الآن أمام محكمة أمن الدولة. ويقول مسؤولون أردنيون إن الجيش وقوات الامن يبذلون قصارى جهدهم للسيطرة على الحدود بين البلدين التي يسهل اختراقها وتمتد لمسافة 370 كيلومتراً. ويقول الناطق باسم الحكومة، الوزير محمد المومني إن الأردن يراقب تحركات أي تيار أو جماعة على اراضيه ويتعامل معها وفق القانون، ولا يسمح بعبور اسلحة أو مقاتلين إلى سورية، ولا ينحاز إلى طرف هناك او يتدخل في شؤونها. لكنه أضاف: «واضح أن أي سيطرة لجماعات متطرفة في سورية هي مصدر قلق للمنطقة وللأردن».