«العالم هذه اللحظة» فقرة مصورة ترافقها الموسيقى من دون أي تعليق صوتي، تسبق بعض النشرات الإخبارية على شاشة «العربية»، وهي فقرة تستغرق حوالى دقيقة واحدة، وتستعرض صوراً من مختلف بقاع الأرض من الولاياتالمتحدة إلى أوروبا إلى آسيا وأستراليا... حيث نجد شوارع مضيئة؛ مطمئنة، وشواطئ آمنة غارقة في صمت زرقتها، وأنهاراً وودياناً وشلالات وعمارات شاهقة وأشخاصاً يظهرون في العمق البعيد لا يكترثون بالأعين التي تترصّدهم... ولكن ما إن تنتهي هذه اللقطات السريعة حتى تطل الكوارث والمجاعات والحروب والانتفاضات والثورات الدامية، وكأن ذاك الهدوء الذي مر قبل قليل، لم يكن سوى «الهدوء الذي يسبق العاصفة»، وفقاً للمثل المعروف. لعل إحدى أهم المزايا التي يتمتع بها التلفزيون هي قدرتها على الجمع بين المتناقضات على الشاشة ذاتها وفي اللحظة عينها، فمنذ ثوانٍ قليلة كانت الوداعة تغمر الشاشة، وها هي الدماء تسيل، الآن، على صفحتها. ولن يندر أن تجد تقريراً عن مهرجان بهيج في حاضرة أوروبية، يليه تقرير عن ضحايا زلزال في أقاصي آسيا. وقد حدث بمحض الصدفة، أن عرضت إحدى الفضائيات تقريراً مصوراً عن أطفال جائعين؛ مشردين يبحثون عن حياة هانئة تليق بأعمارهم الغضة في ضواحي العاصمة الصومالية مقديشو، تلاه تقرير مصور، من واشنطن هذه المرة، حول معرض للروبوتات (الإنسان الآلي) حيث عُرضت أشكال مختلفة لهذه البدعة التي تكلف ملايين الدولارات التي لو صرفت على أولئك الأطفال الضائعين في دروب الفقر والمجاعة لما عانوا تلك المعاناة القاسية. ليس هذا درساً في الأخلاق، لكنه إشارة إلى أن هذا الجهاز العجيب هو وحده القادر على إظهار المفارقات، وتصوير التنافر الحاد بين مناطق حظيت بنصيب وافر من الرخاء والرفاهية ورغد العيش، ومناطق أخرى حُرمت من أبسط مستلزمات الحياة. إن هذه الفوارق الطبقية والاجتماعية التي يراها المشاهد لا تمثل أيديولوجيا تتبناها الفضائيات، بل هي مجرد صور عابرة تلتقطها العدسة وتبثها من دون التعبير عن موقف محدد، وإذ يتواصل البث على مدار الساعة يستنتج المتابع أن ثمة مفارقات هائلة تتحكم في هذا العالم، ومع ذلك، فالتلفزيون ليس بريئاً إلى هذا الحد، أو، بكلمة أدق، ليس سلبياً أو محايداً، بل يلعب دوراً في صوغ رأي عام وتوعية الفرد بما يجرى في محيطه. وليس جديداً القول إن الفضائيات رعت واحتضنت ربيع الثورات العربية، وربما لو كانت غائبة لما حققت تلك الثورات هذه النجاحات، ولعل إحدى أهم المفارقات القريبة؛ الطازجة في البال، والتي تسجل للتلفزيون، ويحتفظ بها أرشيفه، هي أن «الجرذان» انتصروا في ليبيا، بينما الزعيم «الثائر» الذي نعت الثوار من أبناء شعبه بهذا الوصف يقبع ك «الجرذ» في جحر مجهول.