تبدو رمزية إنزال علم إسرائيل من فوق سفارتها في القاهرة أبعد بكثير من مجرد التعبير عن غضب شاب مصري حاول الثأر لمقتل خمسة من جنود بلاده على أيدي القوات الإسرائيلية داخل الأراضي المصرية. إنها إحدى حلقات التغيير في الثورة المصرية التي تبهرنا يومياً بكل ما هو جديد منذ اندلاعها قبل ستة أشهر، وقد وصلت أخيراً إلى «محطة» السياسة الخارجية لمصر في مرحلة ما بعد الثورة. وهي لحظة تبدو شديدة الرمزية والدلالة ليس فقط كونها أدخلت الشعب المصري ولأول مرة طرفاً في معادلة العلاقة مع الكيان الصهيوني وذلك منذ أن أخرجه السادات منها قبل ثلاثة عقود ونيف، وإنما أيضاً كونها تكشف حجم المسافة التي باتت تفصل بين حركة «الشارع» وطموحاته وأهل الحكم في مصر خلال المرحلة الانتقالية. فهؤلاء لا يزالون يتعاطون مع كثير من القضايا الداخلية والخارجية بنفس منطق النظام المخلوع وكأن شيئاً لم يتغير. وأذكر يوم كنا طلاباً بجامعة القاهرة نتظاهر تضامناً مع الحق الفلسطيني، وكانت جحافل الأمن المركزي ونظام مبارك تقف حائلاً بيننا وبين الوصول للسفارة الإسرائيلية التي تبعد أمتاراً عن أسوار الجامعة. ربما ليست هي المرة الأولى التي تقوم فيها إسرائيل باستهداف جنود مصريين على الحدود مع مصر، فهناك سجل طويل من الشهداء الذين سقطوا بأيدي القوات الإسرائيلية منذ توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل عام 1979 (أبرزهم الشهيد سليمان خاطر الذي تم الحكم عليه لمدة 25 عاماً لقيامه بقتل سبعة إسرائيليين لم يمتثلوا لأوامره بعدم عبور نقطة الحدود مع مصر عام 1985 وقيل أنه انتحر بعد ذلك)، ولكنها المرة الأولى التي تشعر فيها إسرائيل باهتزاز وخوف من تداعيات ما قامت به على العلاقات مع مصر، وذلك بفضل المناخ الجديد الذي أوجدته ثورة 25 يناير. ولا أستبعد أن يكون قيام القوات الإسرائيلية باختراق السيادة المصرية وتنفيذ عملية عسكرية على أراضيها نوعاً من «جس النبض» للمزاج العام في مصر في مرحلة ما بعد الثورة. فقد كان نظام مبارك بمثابة الضامن الأساسي لإسرائيل من أية مشاعر شعبية مناهضة لسياساتها في المنطقة، حتى وصفه أحد ساستها ب «الكنز الاستراتيجي» لإسرائيل. وهي تهمة جديدة يجب إضافتها إلى تلك التي يُحاكم بشأنها الرئيس المخلوع إن لم يكن لمصداقيتها، فعلى الأقل لإهانتها وازدرائها للمشاعر الوطنية للشعب المصري. لذا فقد كان محزناً أن يكون رد فعل السلطات المصرية على جريمة إسرائيل باهتاً ولا يليق بحجم ما أوقعته من خسائر. وكنا نظن أن أهل الحكم في مصر قد استوعبوا دروس الشهور الستة الماضية التي أعادت الشعب المصري إلى قلب السياسة وجعلته شريكاً أصيلاً في كل ما يمس حقوقه وكرامته. فلم يتجاوز رد الفعل الرسمي مجرد إصدار بيان استنكار وإدانة لما حدث، وكأنه وقع على حدود دولة أخرى. وقد زاد الطين بلة حين قام مجلس الوزراء المصري بإصدار هذا البيان ودعا فيه إلى سحب السفير المصري من تل أبيب ومطالبة إسرائيل بالاعتذار الرسمي وفتح تحقيق لمعرفة ملابسات الحادث، ولكنه ما لبث أن تراجع عن موقفه فقام بسحب البيان وبدّل لهجته فألغي بند سحب السفير واكتفى بطلب الاعتذار والتحقيق. وقد كانت أمام أهل الحكم فرصة تاريخية لتحسين صورتهم في الشارع المصري إذا ما أحسنوا استغلال هذا الحادث. فمن جهة لم يكن هناك ما يمنع من اتخاذ موقف ديبلوماسي صارم من إسرائيل عقاباً لها على فعلتها، خصوصاً أن ما حدث يمثل جريمة يُعاقِب عليها القانون الدولي، ليس فقط لأنها تمثل انتهاكاً صارخاً لمعاهدة السلام بين البلدين، وإنما أيضاً لكونها تمثل تعدّياً على مهام القوات الدولية الموجودة عند خط الهدنة منذ منتصف السبعينات. ومن جهة أخرى، كان بإمكان المجلس العسكري أن يوجه خطاباً شديد اللهجة لإسرائيل يطالبها فيه بالاعتذار الرسمي عن الحادث وتشكيل لجنة تحقيق مشتركة بين البلدين لمعرفة ملابساته وأخذ ضمانات جدية بعدم تكراره مجدداً. وهي مطالب تبدو بديهية في مثل هذا الموقف، إن لم يكن من أجل ردع إسرائيل عن تكرار انتهاكاتها، فعلى الأقل من أجل حفظ ماء الوجه أمام الشعب المصري. بيد أن العجيب هو أن المجلس العسكري لم يصدر حتى الآن بياناً يعبر فيه عن موقفه مما حدث. ومن جهة ثالثة كان بمقدور المجلس العسكري أن يستغل ما حدث من أجل وقف تصدير الغاز المصري الى إسرائيل، ولو موقتاً، والذي يعد أحد المطالب الأساسية في الثورة المصرية. ومن جهة أخيرة، كان من المتوقع أن يستغل العسكر هذه الفرصة من أجل تصحيح ميزان العلاقة المختل مع إسرائيل، والذي أفقد مصر سيادتها وسيطرتها الكاملة على ترابها الوطني في شبه جزيرة سيناء. لم يطالب المتظاهرون والمعتصمون أمام مبنى السفارة الإسرائيلية في القاهرة بإلغاء معاهدة السلام مع إسرائيل أو قطع العلاقات مع تل أبيب، وجميعها تبدو خيارات عادية مقارنة بحجم الجريمة التي ارتكبت. ولنا أن نتخيل لو أن ما حدث قد وقع داخل الأراضي الإسرائيلية وبأيدٍ مصرية، ماذا سيكون عليه رد الفعل الإسرائيلي؟ كما لم يطالب المتظاهرون بإعلان الحرب على إسرائيل أو فتح جهة للقتال معها، وإنما طالبوا بما يبدو بديهياً ومنطقياً في مثل هذه الحال وهو سحب السفير المصري من تل أبيب وتقديم اعتذار رسمي. وتزداد المفارقة حين نتابع رد فعل الصحافة الإسرائيلية وتعليقات كتّابها على الحادث ومدى تخوفهم من تأثيره على العلاقات مع مصر. فمنذ أن وقع الحادث وهناك درجة عالية من النقد والتقريع يتعرض لها المسؤولون الإسرائيليون بسبب ارتكاب هذه الجريمة لما قد تؤدي إليه من توتير العلاقة مع أكبر دولة عربية، ويعيد فتح ملف معاهدة السلام التي وفرت لإسرائيل أمناً وهدوءاً طيلة العقود الأربعة الماضية. وكان أبرز ما لفت النظر في تعليقات هؤلاء ما كتبه المعلق الإسرائيلي الشهير عكيفا الدار في صحيفة «هآرتس» محذراً إسرائيل من الاستخفاف بما حدث في سيناء ومطالباً الساسة الإسرائيليين بضرورة الكف عن غطرستهم التي سوف تصطدم بما أسماه «ربيع الشرف العربي». وهو تعبير يعكس إلى حد بعيد مدى إدراك بعض الإسرائيليين للتغيرات التي تجتاح المنطقة والتي لن تصب حتماً في مصلحة إسرائيل. في حين عكست هرولة الكثيرين من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين الى القاهرة خلال الأيام القليلة الماضية من أجل تهدئة الأجواء مع مصر مدى الإحساس بخطورة الموقف وجديته. يُخطئ الجيش في مصر إذا اعتقد أن ملف العلاقة مع إسرائيل سيظل شأناً أمنياً خالصاً لا يحق للشعب مناقشته أو الاقتراب منه، فقد أسقطت ثورة 25 يناير الكثير من محرمات السياسة المصرية بما فيها «تابوه» العلاقة مع تل أبيب، وإن عاجلاً أم آجلاً سوف تُكشف أسرار هذا «التابوه» التي ظلت حبيسة طيلة العقود الماضية، ومن دون ذلك سوف يظل الشارع المصري ثائراً ضد أهل الحكم. * أكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]