وسط حضور أمني كثيف، يمر الحاج عبدالرؤوف مرعي مصطحباً نجله زيدان، عبر بوابة إلكترونية تتوسط مدخل «حديقة السيدة زينب الثقافية» وسط القاهرة، ويتوجّه إلى حيث يجلجل صوت الشاعر الشعبي عزت قرشي وهو يروي على أنغام ربابته سيرة بني هلال. وما إن استقر بين جمهور الليلة الرمضانية التي نظّمتها وزارة الثقافة المصرية، حتى ربّت على كتف نجله وانفعل مع قرشي الذي صاح بقوة مدللاً على نجاح «زيدان»، ابن أخت «دياب الزغابي»، في قتل «مطاوع» التابع إلى «الزناتي خليفة» ملك تونس، لينال شرف ثأر «الأمير الخفاجي عامر». ويتذكر الحاج مرعي (55 عاماً) حين نزح مع والده من جرجا (محافظة سوهاججنوب البلاد) إلى القاهرة ليعمل في المقاولات. ولولا هذا النزوح، الذي يشبه انتقال القبائل العربية من الجزيرة إلى تونس بحثاً عن فرص أفضل للحياة، لكان الحاج تحوّل شاعر سيرة معروفاً، وفق تعبيره، هو الذي حفظ أجزاء منها عن ظهر قلب منذ كان صبياً يجلس أمام الحاج سيد الضوي، راوي سيرة بني هلال الشهير في الحفلات. يقول الحاج مرعي: «نحن مالناش في مشاهدة المسلسلات أو الإعلام الرسمي، هذه في الواقع برامج لا تعبر عنّا، حتى الدراما الصعيدية ليس فيها صعيديون حقيقيون نعرفهم، هذه هي سيرتنا (بني هلال)، وهذا تراثنا وما تربينا عليه». أما القرشي (32 سنة)، وهو من قرية المشودة في محافظة سوهاججنوب مصر، فيقول إن «السيرة تمثل حياتنا اليومية»، وهو لا يغني إلا مع فرقته، ووفق طقس وجلسة يوفرهما له مستضيفوه. ويقول: «الناس في الصعيد تعرف السيرة أكثر مما تعرف عن العالم نفسه»، مؤكداً أن هناك رواة بالمئات يحفظون السيرة لكن لا أحد يعرفهم، ولذلك يأمل أيضاً في تأسيس نقابة تضمهم وتحافظ على حقوقهم وتراثهم الشعبي. ويقول الباحث في الفولكور هشام عبدالعزيز: «الذين يبحثون عن حلول لفكرة الثأر في الصعيد لا يفهمون أن سيرة بني هلال ترسخ هذه الفكرة. عليك قبل أن تجد حلولاً أمنية أن تفهم لماذا ينفعل هؤلاء ويصفقون ويتمايلون نشوة بأخذ ثأر الخفاجي عامر». ويضيف: «يستمع إلى سيرة بني هلال بضعة آلاف من الناس في الحفلة الواحدة، ولكل منهم بطله الخاص»، مشيراً إلى أن أحد الرواة تعرض ذات مرة إلى موقف صعب للغاية عندما صوّب أحد الجالسين فوهة بندقيته على رأسه قائلاً: «إذا انهزم أبو زيد الهلالي سأقتلك»، وسرعان ما قام آخر وصوّب فوهة بندقيته إلى رأس الراوي أيضاً مهدداً إياه بالقتل إذا انهزم دياب الزغابي، ولم تُحلّ الأزمة إلا بجلسة عرفية. والسيرة الهلالية هي عمل ضخم، وفق عبدالعزيز، تروي هجرة القبائل العربية من الجزيرة، حيث الصحراء القاحلة، إلى المناطق الخضراء، في تونسوجنوبإسبانيا مروراً بمصر والجزائر. وعن خلط العامية بالفصحى لدى رواية سيرة بني هلال، يقول عبدالعزيز إن العربية الفصحى هي أصل النص، لكن الرواة من الصعيد أقحموا فيها لهجتهم. ويأمل في توليف فريق بحثي بين الجزيرة ومصر وتونس والجزائر وإسبانيا، لرصد تحولات السيرة الهلالية حيث استقرت القبائل العربية، وتبني هذا المشروع عربياً.