جمعت انتصارات «داعش»، التي بدت مثل انتصارات سينمائية، كل الأهداف التي كانت مؤجلة، لكن الحديث كان يدور عليها مترافقاً مع اندلاع أزمة بعد أزمة. فهي خلطت هدف ضم كركوك والمناطق المتنازع عليها إلى إقليم كردستان، مع هدف الحط من شأن الجيش العراقي ومقارنته بجيش صدام الذي استسلم وارتدى الملابس المدنية، مع هدف إقامة إقليم سني، مع هدف عودة «البعث» بقوة إلى العراق. لا يمكن الحكومة العراقية بعد الآن أن تهدد إقليم كردستان بقوات دجلة، ولا يمكنها بسط سيطرتها على المناطق السنية، ولا يمكن الوحدة الوطنية أن تكون هدفاً بعد أن شاع الخوف، فقد بدت بغداد الثلثاء الماضي، مساء سقوط الموصل، أشبه بمدينة أشباح يترصد الخوف شوارعها وبيوتها، حتى أن أصدقاء اتصلوا قائلين إنهم يعدون حقائبهم ترقباً لسقوط عاصمة العراق، والمطعم القريب الذي كان أشبه بسوق عائلية من قبل لم يشهد سواي وصديق آخر. الحرب الإعلامية كانت قد نجحت. ليس المهم من كان وراء ذلك. وهل الأمر مؤامرة أم خدعة أم خيانة أم قوة عسكرية لداعش؟ المهم أن هذه الأهداف تحققت في يوم واحد مثل أفلام الميلودراما التي تطول حبكتها العاطفية لتحل في آخر دقيقة من الفيلم. وبغداد عاشت قلقاً واضحاً، شمل السنة والشيعة معاً، فالجميع عانى من الخوف والترقب. فليس هناك ما يجلب الاطمئنان لأي منهم إذا سقطت بغداد، على رغم أن المدينة تستطيع الصمود عسكرياً بسبب احتياطي القوات فيها، لكنها سقطت إعلامياً سقوطاً مدوياً. وعلى رغم حملات الاعتقالات التي تعرضت لها مناطق مثل الأعظمية والسيدية تحسباً لمشاركة عناصر معروفة للحكومة بالتمهيد لسقوط بغداد عبر الإشاعات والاستعداد للحضانة والتمويل ومشاركة المسلحين، إلا أن القلق لا يزال يحكم بغداد التي تبدو شبه مهجورة حتى في مناطق مثل الجادرية والمنصور التي كانت تشهد كثافة عائلية وشبابية في المساء وحتى آخر الليل. جاء توقيت سقوط الموصل في لحظة حرجة جداً، فالمالكي كان يريد أن يحصد انتصاره لولاية ثالثة. والمرجعية الدينية كانت تلقت ضربة بنتائج الانتخابات لأنها ليست مع تمديد الولاية للمالكي. والقوى السنية لا تستطيع أن تحسم الأمر مع رئيس الوزراء إذا تراجعت القوى الشيعية والكردية وطوت خلافها مع المالكي. وإقليم كردستان واجه صعوبات جمة في إيجاد من يشتري نفطاً على حساب نفط العراق. وإيران تقدمت شوطاً في علاقاتها مع واشنطن ودول الخليج ليكون دورها أكثر تأثيراً إقليمياً، وتركيا فقدت جزءاً من قوتها في العامين الأخيرين وتكاد تعاني من عزلة ومن توترات داخلية، وسورية بدت أنها تحتفظ بالأسد ونظامه و «داعش» تعاني من هزائم فيها. لذلك يمكن البحث عن المستفيد من ذلك كله أو بعضه. منذ اشتباكات قوات الحكومة مع «داعش» في الفلوجة اتضحت بعض الأخطاء اللوجستية والميدانية التي دلت على ضعف الروح القتالية. وكان أكثر من مصدر عسكري يؤكد عدم قدرة القوات وانعدام مهنيتها وضعف أدائها، فالانسحابات الأولى حدثت في الفلوجة وما حولها. أي منذ أكثر من خمسة أشهر. وكان واضحاً أن الضحايا من العسكريين يزدادون، لكن رغبة الحكومة بإخفاء ذلك لأسباب انتخابية حالت دون إعادة النظر بالخطط والقدرات. كما أن الفشل الإعلامي للحكومة وإعلام الأحزاب الشيعية والاعتماد على الدعاية ضد الدعاية المضادة الذكية والحرفية، أعاد إلى الذاكرة طبيعة إعلام النظام السابق وعدم الاعتماد عليه. والعراق يملك أكثر من ثمانين فضائية لا تلتزم بمهنية ولا قانون ولا معايير وتقود حروباً إعلامية حزبية تمهد لإشاعة الخوف والرعب فيه. كانت الولاياتالمتحدة تلح على إجراء مصالحة وطنية لإعادة البعثيين، وكان الشيعة بمن فيهم من أصدر قانوني اجتثاث البعث والمساءلة والعدالة يؤجلون هذه المصالحة، لكنهم يعيدون البعثيين إلى أجهزتهم في تناقض سياسي لم يرض البعثيين ولم يرض الأميركيين. هكذا وجد التشابك الذي أحدثته العملية السياسية منذ عام 2003 تفكيكاً في عملية سقوط الموصل من دون حرب. وسيكون أمام العراق التعامل مع (أمر واقع). فكركوك أصبحت كردية بعد أن انسحب منها الجيش العراقي الاتحادي ودخل إليها أكثر من عشرين ألفاً من قوات البشمركة، والمناطق المتنازع عليها من جلولاء إلى زاخو انضمت إلى إقليم كردستان في يوم واحد. والموصل قد تثير شهية الانضمام إلى تركيا أو الخضوع لها. والإقليم السني أصبح قريباً من الواقع بعد أن كان فكرة تراود الداعين إليه. والجيش العراقي لم يعد موجوداً بعد أن فقد هيبته وفقد المواطنون ثقتهم بهم وأعاد إلى الذاكرة هزيمة 1991 و2003 كما عكس صورة نكسة الخامس من حزيران (يونيو) 1967. واستعادة العراق الموحد ستكون حلماً (فلسطينياً) إلا إذا حدث ما يعيد الاحتلال الأميركي ليوحد العراق بقوة وسياسة مختلفة، تفرض عودة البعث إلى العمل السياسي بقوة عبر هذه الفرصة. هذه الأحداث كانت متوقعة منذ اليوم الأول لسقوط نظام صدام، ولم يكن العرب بعيدين عن إثارة تساؤلاتهم ومخاوفهم من تحققها. لكن ذلك لا يعفي الجميع من المساهمة، بهذا الشكل أو ذاك، في تقريبها من الواقع. ومن الواضح أن العراق عاد إلى نقطة الصفر، خصوصاً أن الأطراف السياسية ستجد في ما حدث فرصة كبرى، لا لتصفية خلافاتها، وإنما لتصفية حساباتها، ولكن يبدو أن النتيجة شبه المؤكدة هي حرمان المالكي من ولاية ثالثة. ولكن، هل يعاد النظر من جديد بعملية سياسية أثبتت فشلها وعدم مهنيتها هي الأخرى، وأنها بحاجة إلى إعادة هيكلة، مثلها مثل الجيش الذي يعكس الوضع السياسي المتردي والذي يحتاج إلى إعادة هيكلة هو الآخر على أساس المادة 9 من الدستور بكل فقراتها؟ * كاتب عراقي