حقق رئيس محكمة جنايات القاهرة القاضي أحمد رفعت بعضاً من رغبات دفينة (لاواعية) لدى الجمهور المصري، قبل أن يقرر وقف البث التلفزيوني لمحاكمة الرئيس السابق حسني مبارك ونجليه علاء وجمال. لقد شاهد هؤلاء الرئيس السابق في أضعف صورة ممكنة، مسجى على سرير المرض في قفص الاتهام. هذا الظهور في ذاته، كما التهم الجنائية، كان مطلوباً. ولا تهم بعده مجريات المحاكمة. فالحكم قد صدر عملياً لمجرد التأكد أن الكهل مبارك (83 عاماً) تخلى عن الرئاسة، عن مصر، ولم يعد قادراً على تملكها مجدداً. كل مقدمات إطاحة النظام السابق ركزت على النقد السياسي لطريقة الحكم وتلاعبه بالدستور والقوانين. وكان مفترضاً التركيز على هذا الجانب في زمن التحول السياسي، كما أشار كثر من المعلقين العقلانيين. لكن التهم الأولى كانت جنائية، ما يرضي رغبة ثأرية لاواعية، وهذا ما فعله رئيس المحكمة في الجلستين الأوليين. كان مبارك يخاطب شعبه ب «أبناء مصر» و «أبنائي». كان «والداً» للمصريين، تعزز موقعه بهذه الصفة من خلال السلطات الرئاسية المطلقة وطول إقامته في الرئاسة. واستأثر بمصر أكثر من ثلاثة عقود. مصر التي خاطبها الشاعر أحمد فؤاد نجم ب «يامّا يا بهية... يا أم طرحة وجلابية». إنها أم المصريين التي استأثر بها مبارك. ولم يسمح لأحد بالاقتراب منها، وحتى اشتهائها من بعيد. لم يعترف مبارك ل «أبنائه المصريين» بأنهم نضجوا وأصبحوا راشدين، حتى لو تزوجوا وأنجبوا. فهو من يدير شؤونهم، ومن يقرر عنهم. ولا يحق لهم الاعتراض على طريقته البطريركية في إدارة شؤون عائلته. رغم الإعلانات المتكررة لمبارك أن «جميع المصريين أبنائي»، فهو كان محابياً. لقد حابى القريبين إليه، وحابى خصوصاً اثنين من «أبنائه المصريين». فجمال كان «الوريث» السياسي المفترض، وعلاء «الوريث» الاقتصادي. لقد فعل مبارك كل ما أمكن لتتشكل صورته الحالية، كأب يستأثر بالأم ويمنع عنها أبناءها، وكأب يرفض الاعتراف لأبنائه بالنضج وحرية القرار، وكأب ظالم يحابي بعضاً من أبنائه على حساب الآخرين. إنه الأب في أسوأ صوره. إنه العجوز الطاغية والمستبد والعنيد والمستأثر بمصر - الأم «البهية» والوديعة والجميلة. وجاءت التهم الموجهة الى مبارك بالقتل والفساد لتؤكد هذه الصورة. فإلى كونها تشبع الرغبة اللاواعية بمعاقبته على هذه الآثام، فإنها أيضاً تمنح الشعور بالانعتاق من سطوته وجبروته. ولذلك ابتهج الجمهور، والمتظلمون منه، لمجرد رؤيته وراء القضبان في وضعه الضعيف. وأوردت التحقيقات الصحافية كلاماً كثيراً لمصريين مفاده بأنهم نالوا حقوقهم لمجرد رؤيته على هذا الضعف. ولذلك كانت جلستا المحاكمة مشهديتين، وليستا السبيل الى تحقيق عدالة قانونية. ولم يشذ عن الابتهاج إلا قلة تدرك أن المطلوب هو التغيير السياسي والمحاكمة السياسية، وليس قتل الأب. في الأساطير، عندما نضج أوديب راح يشتهي أمه الجميلة التي يمنعه الأب من الوصول إليها. فلم يجد وسيلة للوصول إليها سوى قتل والده. إنها الرمزية التي باتت تعرف باسم مركب أوديب، والتي كانت جلستا محاكمة مبارك بمثابة القتل الرمزي له، كأب يريد «أبناؤه» التخلص منه واستعادة أمهم.