«إذا كنتُ خبيراً معلوماتياً متمرّساً، واستأجرت للعمل في شبكة المياه والكهرباء في بلد خليجي وهي مؤتمتة بالكامل وتدار بواسطة الكومبيوتر والشبكات الرقمية. وبعد عشر سنوات من الخبرة في تلك الشبكة الرقميّة، وصل عقد العمل إلى نهايته. وخرجت. كيف يمكن أن أصف وضعي حينها؟ في دماغي وربما على حاسوبي وأدوات ال»فلاش» معلومات ضخمة وحسّاسة، تمكّن من يرغب من صنع فيروس (أو تخطيط هجمة إلكترونية) تشلّ المياه والكهرباء في ذلك البلد الخليجي. هل تتخيّل بلداً خليجياً محروماً من الماء والكهرباء لأسابيع، لأيام بل حتى لساعات»؟ ليس ما سبق مثالاً خياليّاً، بل أنه كان ضمن نقاشات فعليّة تناولها مؤتمر علميّ عقد في إحدى دول الخليج العربي أخيراً. يجدر تذكّره جيداً، لأن أهمية الأمن الرقمي ليست أقل مما يظهره المثال الوارد آنفاً. هل استعاد بعض القرّاء ضرب المفاعلات النوويّة الإيرانية بفيروسي «ستاكس نِت» Staxnet ثم «فلايم» Flame؟ كانت ضربة «فلايم» مؤلمة لأنها استندت إلى معلومات حصلت عليها الاستخبارات الأميركية من الشركات التي تزوّد المفاعلات الإيرانية بالمعدات. لكن خبيراً معلوماتيّاً يعمل في منشأة عسكرية أو مدنيّة (لنقل مجدداً أنه في بلد خليجي) يصبح خطراً داهماً، في حال نقل معلوماته إلى أيد خبيثة. لماذا ينقل تلك المعلومات؟ ربما أنه لم يكن يعلم بأن الشركة التي وظّفته، بل التي تقدّم للعمل لديها عبر إعلانات في الجرائد ومواقع الإنترنت، لم تكن سوى واجهة لجهة استخباراتية أو... إرهابيّة! لا يقصد هذا الكلام التخويف ولا تحريك صورة فرانكنشتاينية عن الأمن الرقمي. وليس عبثاً أن نشطاء الإنترنت خصصوا يوماً عالميّاً للأمن سمّوه «إنترنت أكثر أماناً». (أنظر الموقع الشبكي المخصّص لتلك المناسبة saferinternet.org/safer-internet-day). الإنترنت ليست آمنة! الإنترنت ليست آمنه. هذا ليس تخويفاً. إنّها جملة يجدر ألا تغيب عن الأذهان حتى إشعار آخر، أو ربما حتى حلول عصر آخر. مبالغة؟ حسناً. مَنْ لم تُخرّق آذانه الأصداء المُدوّية للفضيحة المذهلة التي فجّرها خبير المعلوماتية الأميركي إدوارد سنودن؟ ما الذي حملته تلك الفضيحة في ثناياها؟ لم يكن آمِناً هاتف المستشارة الألمانيّة وهي تدير دولة من العمالقة الثمانية عالميّاً، وأضخم اقتصاد أوروبي، ودولة حليفة لأميركا. كتبت صحيفة «دير شبيغل» تغطيات واسعة عن تعاون على مدار الساعة بين الاستخبارات الألمانية والأميركية، في التجسس على... كل شيء وكل شخص تقريباً. ولم تلاقِ التغطيات التي استندت إلى مقابلات مُشفّرة مع سنودن من موسكو، تكذيباً رسميّاً، بل أثارت تحقيقات برلمانية لم تنتهِ لحد الآن، إضافة إلى أزمة نادرة بين ألمانيا وأميركا. تكرر الأمر مع دول كثيرة، منها مجموعة دول أميركا اللاتينية وجلّها حليف لأميركا. تمزيق الأوراق لا يحمي ما الذي قاله سنودن؟ كشف سنودن أن «وكالة الأمن القومي» الأميركية لديها برامج ك»بريزم» Prism، تستطيع التجسّس على الإنترنت بمكوّناتها كافة، إضافة إلى اختراق شبكات الاتصال الخليوية والهاتفية الأرضية والبث المتلفز والاتصالات عبر هواتف الميكروويف وغيرها. كيف تمكّن سنودن من معرفة تلك الأمور الحسّاسة؟ ببساطة، لأنه عمل خبيراً معلوماتياً في شركة كانت ضمن مروحة الشركات التي تعتمدها «وكالة الأمن القومي» في نظمها الإلكترونيّة. إذا استطاع هذا الخبير أن يحصل على تلك المعلومات من قلب وكالة متخصّصة بالاستخبارات، كيف يكون الحال بالنسبة إلى الخبراء الذين يعملون في مؤسسات مدنيّة لكنها تدير شؤون ربما لا تقل حساسيّة عن الاستخبارات (بل تفوقها أحياناً) كنظم شبكات المياه والكهرباء والبث التلفزيوني والمطارات والمرافئ وغيرها؟ مزّقَ وَرَقَة بيضاء. اقتَرَبَ من حافة المسرح. ألقى نُثَر الورق في وجه الجمهور الذي حضر مؤتمراً علميّاً تناول جزء منه أمن الشبكات، انعقد في دولة خليجية أخيراً. «مَنْ يجرؤ على هَزيمة وَرَقَة مُمَزّقة؟ مَنْ يستطيع شنّ هجوم عليها أصلاً»؟ ذلك كان مِثاله عن الخلاصة المُستَفادة معلوماتيّاً من عصر الورق: إذا توزّعت المعلومات (مع تشفيرها بالطبع) على نُثَرٍ صغيرة، وتفرّقت في أمكنة مُتباعِدَة، يغدو أَمنَها شديد القوّة، بل تستعصي على أن تشّن هجمات عليها. دعّم اختصاصي المعلوماتية البريطاني بيتر كوكران ورقته المُمَزّقَة بعرض شرائح ضوئيّة «باور بوينت»، تصدّرته شريحة مُلوّنَة لكومة من الإبر الدقيقة، وقربها عنوان يقول: «العثور على الإبر في أكوام من الإبر- الملامح المستقبليّة في الأمن المعلوماتي» Finding Needles in Needle Stacks or The Future Aspects of Cyber Security. ومن الواضح أن تلك الشريحة تكرّر عبر عنوانها وصورة الإبر المُكوّمَة الخلاصة التي أبرزها كوكران في تمزيق ورقة ونثرها في الهواء. تقول الخلاصة إن توزيع المعلومات قطعاً صغيرة، وتخزينها في أمكنة متفرّقة، يجعل من الصعب تماماً الوصول إليها لسرقتها أوتخريبها. وأظهر كوكران الميّال للسُخرية والمرح، صوراً أخرى تعبّر عن أفكاره المتطوّرة عن الأمن المعلوماتي في الأزمنة الحاضرة. وأبرز شريحة ضوئية لفتاة صغيرة ترتدي ثوباً طفوليّاً أبيض، وتحمل بيدها حفّارة كهربائية صنعت بها ثغرة في جدار قوي، مع عبارة تقول: «لا شيء أسهل من اختراق معظم المؤسسات والشركات». واستطراداً، رأى كوكران أن «حوسبة السحاب» Cloud Computing، التي تضع بيانات المستخدم على الإنترنت بصورة متوزّعِة، هي من السُبُل الأساسيّة في حماية المعلومات. ولكن، لم يخلُ الأمر من ظهور تحفّظات عن وجهة نظره، بعضها هُمِسَ به هَمساً. عندما مزّق كوكران الورقة ونثرها، تذكّر البعض ما حصل عليه الإيرانيون من معلومات من الأوراق الممزّقة بالآلات في السفارة الأميركية في طهران 1979. وعندما ظهرت صورة أكوام الإبر، هَمَس ضيف أجنبي، وهو خبير معلوماتيّة أيضاً، بشبه وشوَشَة: «حسناً. ماذا لو كان للإبرة لون خاص بين أنواع الإبر كلها»؟