لم أعبأ كثيراً بمحاكمة الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، فقد قررت منذ أن تم خلْعه في 11 شباط (فبراير) الماضي ألا أنشغل به بعد أن بات جزءاً من الماضي وذلك على رغم فداحة الكوارث والجرائم التي وقعت في عهده وستظل آثارها باقية إلى أجل غير قصير. ولولا هزلية المحكمة وسوء «إخراجها» لما التفتّ الى حجم الضجيج الذي رافقها والأوصاف التي خُلعت عليها مثل «محاكمة تاريخية» و «محاكمة القرن» والتي جرى فيها استحضار كل ما هو خيالي وديني في مشهد أبسط ما يمكن أن يطلق عليه أنه عبث. لم أرَ أية «معجزة» سياسية في محاكمة مبارك، خاصة إذا ما وُضعت في سياق عملية خلعه التي لم تستغرق أكثر من ثمانية عشر يوماً فقط، ولم أستشعر لوهلة أن الشخص «الممدّد» على «سرير» المحاكمة يستحق كل هذا الضجيج والاهتمام، فهو في النهاية مواطن متهمٌ في قضايا قتل وفساد ونهب للمال العام، حتى وإن حكم مصر لأكثر من ثلاثين عاماً. وإن كانت ثمة فائدة من محاكمة مبارك فهي في تفكيك تلك المنظومة «النفسية» للعلاقة بين الحاكم والمحكوم في بلد عُرفت عنه فرعونيته السياسية وتأليهه للحكام. ما يحدث في مصر الآن أهم بكثير من الانشغال بمحاكمة مبارك، وهو أهم وأولى بأن يُنظر إليه بقدر من الجدية والحذر إن لم يكن الخوف على مصير هذا البلد. وهو الخوف الذي تقف في خلفيته حالة الخلل وانعدام التوازن التي تزداد عمقاً مع طول أمد المرحلة الانتقالية. تحدّثنا الأدبيات السياسية عن ثلاثة عوامل يمكنها أن تهدد مصير الانتقال الديموقراطي في أي بلد مهما كان تماسكه الاجتماعي ومركزيته السياسية. أولها العامل الأمني، وثانيها العامل الاقتصادي، وثالثها الانقسامات السياسية الحادة. فيما يخص العامل الأمني، فالأمر هنا لا يتعلق فقط بالأمن «الفردي» الذي يمثل عتبة الاستقرار والسكينة لدى المواطنين، ويسهم في تعزيز الثقة بإمكانية خوض تجربة التحول الديموقراطي من دون قلق، وإنما يمتد لتشمل تداعياته إعادة تشكيل العلاقات المدنية - العسكرية في مرحلة ما بعد الثورة. بكلمات أخرى، فإنه كلما ازدادت التحديات الأمنية في مرحلة الانتقال الديموقراطي، كلما أضعف ذلك شوكة النخبة المدنية في التفاوض مع العسكر الذين تزداد شرعيتهم باعتبارهم الأكثر قدرة على حفظ الأمن واستتبابه. وهو ما يعني زيادة قناعة المواطن العادي بضرورة وجود العسكر ليس فقط كضامن للانتقال وإنما أيضاً كبديل في حال فشل النخبة السياسية في بلورة بديل مدني يمكنه تحقيق الوظيفة الأمنية بنفس الكفاءة. هنا يصبح بقاء العسكر في السلطة غير مرتبط بنوايا «خفية» أو رغبة «مستترة» في الإمساك بالسلطة، بقدر ما هو مطلب «جماهيري» للحفاظ على الأمن وسلامة المجتمع. ربما لم تصل مصر إلى مرحلة الفوضى الكلّية، بيد أن حوادث العنف المتكررة والتي تقع في فترات زمنية متقاربة (ما حدث قبل أيام في المنيا والعريش، والسيدة زينب، وسوهاج، وقبل أسابيع في السويس وإمبابة) هي مؤشر على أننا نسير باتجاه قدر من الفوضى لا تُضمن معه عملية انتقال ديموقراطي آمن وعاجل. ويزداد الأمر سوءاً إذا حاول العسكر أو من بيدهم السلطة تسييس المسألة الأمنية. وهنا نعني أمرين أولهما أن يتم غض الطرف سهواً أو عمداً عن ردع التهديدات الأمنية المباشرة (البلطجة والسرقة وتهريب المساجين) إما بحجة عدم أهلية قوات الأمن والشرطة في مرحلة ما بعد الثورة، أو بسبب انفلات المواطنين والخوف من مواجهتهم. وثانيهما، أن تتم مقايضة الأمن بتضييق مساحة الحريات المدنية التي تعد إحدى مكاسب الثورة. وقد يصل الأمر إلى حد إبطاء عملية الانتقال الديموقراطي ونقل السلطة للمدنيين (مثل تأجيل الانتخابات من أيلول/ سبتمبر إلى تشرين الثاني/ نوفمبر، إصدار مراسيم بقوانين من دون مناقشتها مع أصحاب المصلحة... إلخ). وبمعنى من المعاني يمكن تسكين محاكمة مبارك في إطار هذه المقايضة، أو على الأقل هذا ما قد يتصوره البعض، وذلك مقابل امتصاص الزخم الثوري من جهة، وإسكات الأصوات المنادية بتنفيذ مطالب الثورة من جهة أخرى، وقمع المتظاهرين والمعتصمين بالقوة من جهة ثالثة. وعليه تصبح النتيجة المنطقية زيادة درجة التوتر في العلاقات المدنية - العسكرية ليس فقط نتيجة انغماس العسكر في السياسة، ما يعني حتماً انخفاض جودة المُنَتج الديموقراطي، وإنما أيضاً نتيجة خلق بؤرة جديدة للصراع حول موقع العسكر في النظام السياسي الجديد ومدى قبول المدنيين به. وبحسب إحدى الدراسات المنشورة حديثاً فإن حوالى 25 حالة من حالات التحول الديموقراطي في العالم شهدت نكوصاً وارتداداً للحكم السلطوي بسبب العامل الأمني. في ما يخص العامل الاقتصادي، فهو يعد من بديهيات التحول الديموقراطي، ليس فقط باعتباره أحد المحركات الأساسية للثورات والانتفاضات الشعبية، وإنما أيضاً باعتباره أحد الضمانات المهمة لترسيخ عملية التحول الديموقراطي في مرحلة ما بعد الثورة. صحيح أن العلاقة بين النمو الاقتصادي والتحول الديموقراطي ليست خطية أو حتمية بالضرورة، بيد أن توفير الحد الأدنى من «الأمن» الاقتصادي والعدالة الاجتماعية في مرحلة ما بعد الثورة يعد صمام أمان لا غنى عنه لإتمام عملية التحول الديموقراطي. ومنذ قيام الثورة المصرية لم تتجسد هذه العدالة واقعاً، ولا تتعلق المسألة هنا بضعف الأداء الاقتصادي وتراجع مؤشرات القطاعات القائدة للاقتصاد كالسياحة والخدمات، وإنما بالإجراءات الاقتصادية اليومية التي تمس حياة المواطنين بشكل مباشر. وخطورة هذا الوضع الاقتصادي لا تكمن في تعطيل عملية التحول الديموقراطي عطفاً على ضعف الإمكانات والموارد اللازمة للتمكين من القيام بهذه العملية بكفاءة، وإنما بالأساس في مردودها الاجتماعي والنفسي على المواطنين في مرحلة ما بعد الثورة. بكلمات أخرى، من شأن استمرار الخلل في الميزان الاجتماعي الناجم عن سوء السياسات الاقتصادية في مرحلة ما بعد الثورة أن يدفع بالكثيرين من أبناء الطبقات الدنيا ليس فقط الى الإحباط من الثورة بل الى الانقلاب عليها والمطالبة بعودة الدولة الأبوية patronage state الراعية على حساب دولة الحرية والعدالة. وقد ازدادت هذه الحال مؤخراً حيث تضُخ الصحافة المصرية وأعمدة كتابها اليومية قصصاً متنوعة عن حجم المعاناة التي تواجهها هذه الطبقات بعد قيام الثورة. وخطورة وضع كهذا على عملية الانتقال الديموقراطي أكبر بكثير من تلك التي يقودها «تحالف قوى الثورة المضادة». العامل الثالث يتعلق بالانقسامات السياسية الحادة في مرحلة ما بعد الثورة، وهي في العادة تتنوع ما بين انقسامات إثنية وعرقية وطائفية وإيديولوجية. وإذا كانت مصر لا تعرف الأنواع الثلاثة الأولى، فإنها تشهد نوعاً من الانقسام الإيديولوجي الحاد، وصل مؤخراً إلى درجة التشظي والتجزئة على خلفيات ثقافية وفكرية وهوياتيّة بعضها أصيل والأخر مُفتَعل. ومن دون الخوض في تتبع مسارات وشقوق هذه الانقسامات، والتي وصلت إلى حد التنازع داخل التيار الواحد، فإنه يمكن رصد بعض الملاحظات حول طبيعتها ومآلاتها: أولاً: يعكس الانقسام الإسلامي – العلماني قدراً من الرعونة وانعدام الحكمة لدى طرفيه في مرحلة ما بعد الثورة. وللحق فإن اللائمة تقع بالدرجة الأولى على التيارات الليبرالية والعلمانية ليس فقط لافتراض ما يجب أن تتسم به من انفتاح وقبول للآخر، وإنما لكونها أبدت امتعاضاً وتذمراً من دخول الإسلاميين بكثافة إلى المجال العام المصري، وصل مؤخراً إلى المطالبة بإقصائهم باعتبارهم خطراً على الثورة. صحيح أن بعض شعارات الإسلاميين (وهم هنا كتلة غير متجانسة إيديولوجياً وسياسياً) تبدو مقلقة، ولكنها يجب أن توضع في سياق إقصائهم وحرمانهم الطويل من العمل السياسي طيلة العقود الستة الماضية. لذا فإن مزيداً من الإقصاء سوف يفضي إلى مزيد من التحزّب والتخندق الإيديولوجي وبالعكس. وكانت النتيجة أن شهدنا خلال الأسابيع الماضية «مواجهات» ومعارك ساخنة بين الطرفين طمست الكثير من رونق الثورة المصرية. ثانياً: إذا كان اختلاف الرؤى السياسية علامة إيجابية على مدى انفتاح المجال العام أمام كافة التيارات في مرحلة ما بعد الثورة، فإن الانتقال من الاختلاف والتدافع إلى الانقسام والتنابذ يمثل أول مسمار يُدق في نعش عملية الانتقال الديموقراطي، بخاصة إذا استُحضرت معه القضايا الرمزية كالدين والهوية كبؤر للصراع. وإذا كانت مصر من الدول القليلة في المنطقة التي انصهرت فيها هويتها وشخصيتها القومية عبر قرون، إلا أن الانقسامات الإيديولوجية الحادة من شأنها تشويه هذا الانسجام الهوياتي وتفتيت بنيته الاجتماعية، بخاصة في ظل عمليات الحشد والتعبئة التي يقوم بها كل طرف في مواجهة الطرف الآخر. ثالثاً: أخطر ما في حالة الانقسام الإيديولوجي الراهنة في مصر ليس فقط أنها أتت في مرحلة مبكرة جداً من عمر الثورة، وإنما أيضاً كونها تتجاوز ما هو إجرائي وموقت إلى ما هو جوهري ودائم. فالخلاف بين التيارات السياسية والدينية وإن جاء على خلفية ترتيبات المرحلة الانتقالية (مسألة الدستور أم الانتخابات أولاً)، إلا أنه يقفز بالجميع إلى مربع من القضايا يحتاج سنوات إن لم يكن عقوداً لحلّها، كالعلاقة بين الدين والدولة، والدين والمجتمع، ومساحة المدني والديني في المجال العام... إلخ. رابعاً: يغيب عن الأطراف المتنازعة أنها ليست وحدها في الفضاء العام، وأن ثمة فئات وطبقات وجماعات أخرى تتشارك معها في هذا الفضاء وأنها قد تنهض للدفاع عن مصالحها إذا ما استمر الحشد الإعلامي والحركي بين المتنازعين على حاله. خامساً: بقدر ما يبدو الطابع الإيديولوجي مهيمناً على الانقسامات الراهنة، إلا أنها في الحقيقة تعكس صراعاً طبقياً على المصالح الاجتماعية والسياسية في مرحلة ما بعد الثورة. فالليبراليون والعلمانيون يمثلون إلى حد بعيد الطبقة الغنية بالإضافة إلى الشريحة العليا من الطبقة الوسطى، وهي التي لعبت دوراً لا ينكر في إشعال الثورة المصرية. في حين يمثل الإسلاميون الطبقة الدنيا والشريحة الدنيا من الطبقة الوسطى، وقد شارك بعضهم في الثورة منذ بداياتها الأولى. وكل طرف يدافع عما يعتبره مصالحه وموقعه في المرحلة الجديدة، وقد غاب عن ممثلي كلا الطرفين أن مصر ما بعد الثورة يمكن أن تسع الجميع شريطة التجّرد وإنكار الذات. * كاتب وأكاديمي مصري - جامعة دورهام، بريطانيا. [email protected]