جمعة الحسم التي انتهت باقتحام مقر السفارة الإسرائيلية، كشفت حقائق وأخطاء كثيرة في تكوين الثورة المصرية ومسارها، وفي طبيعة المرحلة الانتقالية وأداء القوى السياسية والمجلس العسكري والحكومة. والمسؤولية وإن كانت مشتركة، إلا أنها غير متساوية، فالمجلس العسكري يتحمل النصيب الأوفر من المسؤولية، بحكم أنه يمتلك السلطة ويدير البلاد، لكن على الأطراف جميعاً التعاون والعمل المشترك لتصحيح الخلل في مسار المرحلة الانتقالية. الحقيقة الأولى: أن ثورة 25 يناير انطلقت من دون أيديولوجية وبرنامج، ومن دون قيادة وتنظيم، وقد عبرت هذه الحقيقة عن مدى التطور السياسي ومدى نضج النخب السياسية والمجتمع المدني، أي أنها كانت معطى واقعياً لا يمكن القفز فوقه أو تعديله، وقد نظرنا إليه باعتباره يحمل عناصر قوة وضعف متصارعة ومتناقضة، كان أبرزَها عجز النخبة السياسية وائتلافات الثورة عن الاتفاق على قيادة مشتركة تمثل كل قوى الثورة وتعمل في إطار خريطة طريق واضحة. من هنا، كان طبيعياً أن يمسك المجلس العسكري بالسلطة، ويتسع دوره مع زيادة الخلافات والصراعات بين قوى الثورة، والتي أدخلت جماهير الثورة في معارك حول مكانة الإسلام ودوره في الدولة، أو هل الدستور أولاً أم الانتخابات وغيرها. وفي إطار انقسام النخبة حول مدنية أو إسلاموية الدولة، تضخَّمَ دور المجلس العسكري، الذي يفتقر أصلاً للخبرة والرؤية السياسية، وبدأت عناصر من النخبة –من مختلف التيارات- تسعى للتقرب إليه والتفاهم معه على حساب بقية التيارات، وأحياناً على حساب أهداف الثورة واستحقاقات المرحلة الانتقالية. الحقيقة الثانية: وجود انقسام واضح في قوى الثورة، يتجاوز الانقسام الثنائي بين قوى مدنية وقوى إسلاموية، حيث يمكن رصد أربع قوى أساسية هي: أولاً: القوى الإسلاموية –الإخوان والسلفيون– التي لم توافق على جمعة الحسم وبدت في كثير من مواقفها متفاهمة وقريبة من المجلس العسكري. ثانياً: القوى الليبرالية واليسارية والقومية، التي تلتزم بالثورة السلمية وتطالب باستكمال تحقيق أهداف الثورة وتنتقد صراحة بعض مواقف المجلس العسكري والحكومة. ثالثاً: قوى وعناصر أقصى اليسار، وتضم خليطاً غريباً ومتنافراً في أفكاره ومواقفه السياسية، لكن الحماسة للثورة هي ما تجمعهم، إضافة إلى الافتقار للمعرفة والخبرة السياسية، وهؤلاء الوافدون الجدد ليس لديهم خبرات سياسية، وإنما خبرات وآمال وتطلعات ثورية، من دون إطار أيديولوجي أو نظام للأولويات أو المواءمات بين الثورة والدولة، لذلك دخلوا في مواجهات غير مطلوبة مع المجلس العسكري، وقاموا بأعمال تعتبر تهديداً لوجود الدولة، ما دفع المجلس العسكري للاقتراب من الإخوان والسلفيين. والإشكالية أن هذه القوى لم تندرج في إطار الأحزاب القديمة أو الجديدة، وإنما شكلت ائتلافات (يصل عدد ائتلافات الثورة إلى 154)، واستعملت «فايسبوك» و «تويتر» في تشبيك علاقاتها وتبادل المعلومات والآراء. ومن ثم ظلت بعيدة من سيطرة وتوجيه النخب السياسية من جهة، ومن الشارع من جهة ثانية. رابعاً: غالبية المصريين أيدوا الثورة على أمل تحقيق تغيير شامل في بنية النظام السياسي والاقتصادي، ولكن يبدو اليوم أن الدعم غير المحدود الذي قدمته غالبية المصريين –الصامتة– تراجَعَ، نتيجة انقسامات النخبة وانتهازية بعض رموزها، وتباطؤ إجراءات محاكمة رموز نظام مبارك وتطهير الدولة والإعلام ورعاية أسر الشهداء، وعدم الشعور باستعادة الأمن وعودة عجلة الإنتاج، ومن هنا بدأت قطاعات واسعة من الغالبية الصامتة في الكفر بالثورة، خصوصاً في ظل حملات الثورة المضادة والتشويه الإعلامي للثوار التي يمارسها الإعلام الحكومي أحياناً. ومن المرجَّح أن يزداد تباعد الغالبية الصامتة عن الثورة لمصلحة أي نظام حكم أو حزب يحقق ما يقال إن الثورة فشلت فيه، كاستعادة الأمن والاستقرار. في هذا الصدد، قد تؤيد غالبية المصريين تفعيل قانون الطوارئ وربما استمرار المجلس العسكري في الحكم شرط تحقيق الأمن وتوفير فرص عمل. الحقيقة الثالثة: أن افتقار الثورة إلى القيادة، إضافة إلى مشاكل النخب السياسية والدينية، قلص من سيطرة النخب على الشارع، وقدرتها علي السيطرة والتوجيه، خصوصاً في ظل عدم حل المشكلات الاجتماعية وغياب الأمن وارتفاع الأسعار، والتباطؤ في محاكمة رموز نظام مبارك، وعدم وضوح الرؤية، وبالتالي توالت المطالب الفئوية واتخذت طابعاً يهدد سلطة الدولة والقانون، مثل قطع الطرق وإيقاف المواصلات العامة والهجوم على مؤسسات الدولة ورموزها، في هذا السياق جاء التطور الأخير باقتحام السفارة من قبل فئات لا تخضع للتوجيه أو السيطرة، ولا تعي تبعات هذا الاقتحام وتأثيراته السياسية والقانونية. صحيح أن هدم الجدار الذي يحمي السفارة وإنزال العلم الإسرائيلي واقتحام السفارة يعبر عن غضب مشروع وشعور بالإهانة والرغبة في التغيير، لكنه لا يبرر ما حدث، ويسيء إلى صورة الثورة وطابعها السلمي المتحضر، ويفتح الباب أمام تحدي الاختيار بين الثورة والفوضى، وبين الثورة وهيبة الدولة. الاختيار يبدو سهلاً، فالثورة المصرية لم تهدف الى هدم الدولة أو الفوضى، ولم تدعُ القوى التي صنعت الثورة إلى هدم الدولة لكنها سعت إلى تطهير الدولة والإعلام، ومن خلال قانون وأحكام قضائية أمام محاكم مدنية، لكن المشكلة أنه كلما ماطل أو تباطأ الحكم الجديد في تحقيق أهداف الثورة كلما تفاقمت الاضطرابات والاعتصامات وانتشرت الفوضى، وبالتالي فإن الوضوح في المرحلة الانتقالية وتحقيق أهداف الثورة (ومنها تطهير أجهزة الدولة)، كفيل بتحقيق الاستقرار والقضاء على الفوضى. والمؤكد أن القوى المدنية –الليبرالية واليسارية والقومية – التي صنعت الموجة الأولى من الثورة في كانون الثاني (يناير) الماضي، تجمعت في ميدان التحرير يوم الجمعة الماضي، وطالبت باستكمال الثورة وتطهير الدولة، وأن يعلن المجلس العسكري عن جدول زمني لتسليم السلطة إلى حكومة منتخبة ووقف محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري. ولم تذهب هذه القوى إلى سفارة إسرائيل أو تهاجم مديرية أمن الجيزة، ليس لكونها توافق على التطبيع أو رد الحكومة المتواضع على الاعتداء الإسرائيلي على سيناء، بل لأنها تمتلك وعياً سياسياً أعمق وتتحرك وفق أولويات منطقية تركز على هموم المرحلة الانتقالية ومشاكلها. ومن الواضح أن التظاهر السلمي هو السلاح الذي تستخدمه بنجاح لتحقيق أهداف الثورة، ومن الصعب مطالبتها بالتخلي عنه كما تطالبها بعض القوى، خصوصاً السلفيين، لأن المليونيات أثبتت خمسَ مرات –بعد رحيل مبارك– نجاحَها في الحفاظ على قوة الثورة وتحقيق كثير من المطالب، بفضل ما ينتج عنها من ضغط سياسي، وكانت الأخطاء والتجاوزات التي تقع فيها محدودة قياساً بأعداد المشتركين والأهداف التي تحققت. الحقيقة الرابعة: سيطرة فكرة المؤامرة على الخطاب العام –مجمل القول والممارسة– للمجلس العسكري والحكومة والقوى السياسية والشارع، فالثورات العربية مؤامرة تستهدف تفكيك الدول العربية وإشاعة الفوضى، والتيار الإسلامي يتآمر على الثورة والدولة المدنية، والمجلس العسكري يتآمر للبقاء في الحكم، ويتآمر مع الإخوان والسلفيين ضد القوى المدنية، وفي المقابل، تتآمر القوى الليبرالية واليسارية ضد الهوية الإسلامية لمصر، ثم إن فلول النظام تتآمر على الثورة، ودائماً هناك قوى أجنبية تتآمر على مصر وتمول حركات سياسية وأحزاب، وبالتالي كان من المنطقي أن تنتعش فكرة المؤامرة لتفسير اقتحام السفارة والهجوم على مديرية الأمن. والمفارقة أن الحكومة والمعارضة اعتمدتا فكرة المؤامرة من دون تقديم دلائل أو شواهد، فقد روجت الحكومة لوجود أصابع لقوى خارجية حركت الأحداث واستغلت مشاعر الشباب واندفاعهم، أما رواية المعارضة، فهي تلجأ كالعادة الى فلول نظام مبارك الذين وظفوا البلطجية لاقتحام السفارة من أجل حرف الأنظار والاهتمام عن مطالب «جمعة الحسم» وشيطنة الثورة. وهناك رواية ثالثة ترى أن المجلس العسكري تعمَّد فتح الطريق أمام المتظاهرين لاقتحام السفارة، حتى يبدو في الداخل والخارج في صورة الطرف الوحيد القادر على تحقيق الأمن والحفاظ على مؤسسات الدولة. وأعتقد أنه من الضروري استبعاد نظرية المؤامرة بوجهيها الحكومي والمعارض، والاهتمام بفرضيتين، الأولى وجود تقصير متعمد أو غير متعمد من العناصر الأمنية –الجيش والشرطة– المكلفة تأمين السفارة، وضرورة قيام جهة مصرية مستقلة بالتحقيق في وقائع هذا الاقتحام. والفرضية الثانية وجود عناصر متشددة ضمن قوى الثورة قامت باقتحام السفارة والاشتباك مع الشرطة، وقد نجحت هذه العناصر في حشد مواطنين عاديين يحركهم العداء لإسرائيل ورفض قمع الشرطة للمتظاهرين. وللأسف، قد يوظف كل هذا الجمع الغريب لمصلحة فلول نظام مبارك أو قوى أجنبية. الحقيقة الخامسة: لا بد للمجلس العسكري من أن يراجع منهجه في التفكير والعمل، حيث اتخذ قرارات تتناقض مع الروح الديموقراطية للثورة، ويغلب عليها الطابع الأمني –منهج مبارك في الحكم–، كتفعيل قانون الطوارئ وتقييد البث الفضائي، من دون أن يبادر بتقديم حلول أو تصورات سياسية، مثل الإعلان عن جدول زمني محدد لإنجاز مهام المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة لحكومة منتخبة، علماً أن مهلة الشهور الستة لتسليم السلطة لحكومة منتخبة قد انتهت، ولم يعلن عن موعد إجراء الانتخابات البرلمانية، والأهم أن كل القوى السياسية تتفق على رفض قانون الانتخابات، وتطالب بتعديله. كما تطالب بوجود هياكل دائمة للحوار المجتمعي مع المجلس العسكري، وتشكيل لجنة استشارية من الأحزاب والقوى السياسية والنقابات تساعد المجلس، الذي يفتقر إلى الخبرة في إدارة المرحلة الانتقالية، ويفتقر أيضاً إلى القدرة على نقد الذات والاعتراف بالأخطاء وتصحيحها. وهذه هي جوهر أزمة نخبة الحكم والمعارضة في مصر خلال المرحلة الانتقالية. وأعتقد أن أول الأخطاء التي لا بد من الاعتراف بها للرأي العام هي عدم توفير حماية كاملة لمحيط السفارة الإسرائيلية، وعدم تقديم رد قوي ومقنع على قتل الجنود المصريين في سيناء، والتباطؤ في إصدار قانون الغدر، وتطهير جهاز الدولة واستعادة الأمن، ولا شك في أن عدم إصلاح هذه الأخطاء والتردد والارتباك وتفضيل الحلول الأمنية، ستقود إلى مزيد من العثرات والأخطاء في مسار المرحلة الانتقالية. وعلينا أن نتذكر أن الأحكام العسكرية ضد المدنيين لم تحقق الأمن، لذلك أرى أن تفعيل قانون الطوارئ لن ينجح في القضاء على الانفلات الأمني، ولن ينجح جهاز الشرطة في تطبيق قانون الطوارئ قبل أن يعاد تأهيله، حتى يستعيد ثقة المواطنين ودعمهم، وبالتالي قدرته على العمل، فالشعب المصري الذي كسر حاجز الخوف من السلطة والشرطة لن يتقبل بسهولة عودة العمل بقانون الطوارئ، وعودة انتهاكات الشرطة لحقوق الإنسان. * كاتب مصري