المهم الآن ألا تعلن الديبلوماسية السورية إلغاء دول مجلس التعاون من الخريطة، كما فعلت مع أوروبا! المهم أن تتوقف قليلاً أمام البيان الرئاسي لمجلس الأمن، وأن تأخذ في الاعتبار خروج دول الخليج عن صمتها بعد طول انتظار. والأهم ألا تلجأ إلى ما لجأ إليه أحد إعلامييها في إحدى الفضائيات منبهاً دول الخليج إلى قدرة بلاده على تحريك المواطنين الشيعة في هذه البلدان! ومتهماً إياها بأن بياناتها تكتب في واشنطن. ومتناسياً أن هذه الدول لم تتعامل مع دمشق مثلما تعاملت مع طرابلس. بل أرسلت أكثر من موفد ورسالة إلى النظام تعرض المساعدة لتفادي السقوط في المحظور. لكنها لم تسمع غير ما سمعت تركيا التي «بدأ صبرها ينفد»، كما عبر رجب طيب أردوغان. المهم الآن أن تستجيب دعوة أنقرة إلى أخذ المواقف الدولية على محمل الجد. لن يصل الأمر بالطبع إلى حد قيام حملة عسكرية غربية على سورية غداً، كما حصل في ليبيا، وإن حذّر المندوب الدائم لروسيا لدى حلف شمال الأطلسي ديمتري روغوزين من أن الناتو يخطط لحملة عسكرية ضدها للمساعدة على إطاحة النظام «مع هدف بعيد المدى، وهو تجهيز رأس جسر ساحلي لهجوم على إيران». على دمشق أن تأخذ المواقف المستجدة لمجلس الأمن ولمجلس التعاون على محمل الجد. فكلما توغلت أجهزتها في قلب المدن تدميراً وبطشاً، كما في حماه ودير الزور ودرعا وغيرها، أتاحت للتدخل الخارجي الاقتراب من أسوارها ودواخلها. ودفعت الدول العربية إلى الخروج عن صمتها وحيادها. أراد النظام أن يجعل من حماه درساً لئلا تتحول مثالاً لباقي المدن. أراد أن يظهر للعالم الذي كان يستبعد أن تتكرر مأساة المدينة أنه قوي، وليس مستعداً لإظهار الحد الأدنى من الضعف أو التردد والرضوخ. لم يصغ النظام لتحذير تركيا من أنها لن تسمح بتكرار مأساة حماه. لم يبدل ما بدأه منذ اليوم الأول للحراك. تعامل مع المتظاهرين تبعاً لثقافة درج عليها منذ أربعين عاماً بأركانه الحزبية وأجهزته الأمنية: لا رحمة ولا تسامح مع المعارضين. لكن جموع هؤلاء التي تتسع كل يوم أظهرت أن هذه الثقافة لم تعد تنتمي إلى هذه الحقبة. فكلما ارتفعت وتيرة البطش اتسعت ساحات الاحتجاج. بل ثمة من يخشى أن يؤدي رفع وتيرة القمع إلى المجازفة في التأثير السلبي في وضع الجيش. ما يقود إلى بداية انقسامات تؤدي بدورها إلى نوع من أنواع الحرب الأهلية. مثلما تدفع بكثير من الفئات الداخلية الصامتة والمتفرجة، وبعض الأقليات الخائفة من المستقبل، إلى التقدم نحو صفوف المعترضين، خصوصاً إذا بدأت الأزمة الاقتصادية تتفاقم، وبدأت العقوبات تترك آثارها السلبية. على دمشق أن تأخذ في الاعتبار أن أياً من الدول الأوروبية والولاياتالمتحدة والدول العربية التي بدأت ترفع الصوت عالياً وتهدد بمزيد من الضغط، لم تقل علناً حتى الآن بتغيير النظام. انتظرت طويلاً ترجمة الوعود بالإصلاح. وانتظرت عبثاً نتائج الحوار الذي انتهت طاولته كما انتهت طاولات الحوار في لبنان! أرادت دمشق منه تهدئة الداخل وطمأنة الخارج ومحاولة زرع بذور الشقاق في صفوف المعارضين. أرادت كسب الوقت لعلها تنجح في كسر اندفاعة الشارع. وتبين لهذه الدول أن النظام لم يحد عن روايته الأولى عن وجود مؤامرة خارجية وعن مجموعات متطرفة مسلحة تعيث فساداً، وهذه موجودة بالتأكيد والتعجيل بالاصلاح كان كفيلاً بوقف تحركاتها بدل أن تكون مواجهتها ذريعة لمواجهة مع الناس، معظم الناس. تبين أن النظام لم يعترف حتى الآن بوجود أزمة، وبالتالي لا حاجة إلى تغيير جذري في هيكليته. تبدلت الحال بعد خمسة أشهر من «السماح». الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية وبعض العرب لم تجار تركيا التي اندفعت في بداية الأزمة نحو مواقف متشددة من النظام في سورية أثارت جدلاً حتى في أنقرة. اعتبرها خصوم أردوغان مواقف انتخابية اضطر بعدها إلى إرسال وزير خارجيته أحمد داود أوغلو إلى طهران وبعض العواصم العربية للمساعدة على إطفاء الحريق في دمشق. لكن عودة تركيا إلى التشدد ومثلها الولاياتالمتحدة وأوروبا وبعض الدول العربية، التي قيل الكثير في أسباب ترددها في دعم الحراك السوري، فيها شيء من التجاوب مع شوارع هذه الدول التي باتت ترفع هي أيضاً شعار «صمتكم يقتلهم». وفيها استجابة لضغوط جمعيات ومؤسسات مدنية وحقوقية لا تعتقد في هذا الزمن بوجود مجتمعات محلية مغلقة لها الحق السيادي في تعريف حقوق الانسان وحرياته. العودة إلى مزيد من التشدد لفرض عزلة سياسية واقتصادية محكمة على النظام في دمشق، ستفاقم عزلته الداخلية والقطيعة بينه وبين قطاعات واسعة من الشعب وقفت وتقف حتى الآن موقف المراقب والمحايد. وتشكل رسالة دولية وعربية قد تكون أخيرة بأن فترة الانتظار طالت. والمطلوب الاستماع إلى صوت تركيا ودول الخليج، التي نصحته منذ البداية بالتعجيل في الاصلاحات مبدية كل الاستعداد للدعم والمشورة والمساعدة. وليس التعويل على إيران وخوض معركتها مع الغرب ومعظم الدول العربية. إذ من الواضح تماماً أن الجمهورية الاسلامية الايرانية تخوض معركة مصيرية في سورية وعليها. لم تكتف بتجنيد الساحة اللبنانية في هذه المعركة، بل تعول على حكومة بغداد لدعم سورية من أجل تجاوز صعوباتها الاقتصادية... إن لم نقل تضغط على حكومة نوري المالكي الذي هدد قبل سنتين بنقل معركته مع دمشق إلى مجلس الأمن، بسبب أعمال العنف التي كانت تجتاح العراق في حينه. وقد تكون هذه «المونة» الإيرانية المفرطة على بغداد أحد أسباب تحريك المياه الخليجية. وثمة من يعتقد بأن هذه ليست مجرد «مونة»، بل تأتي في سياق تشديد طهران قبضتها على العراق، مخافة أن تفرض عليها خسارة سورية - ولبنان تالياً - خوض معركة مصيرية وحاسمة مع الولاياتالمتحدة ومعظم «النظام» العربي في العراق، وعلى موقعه في النظام الاقليمي الجديد. من هنا ربما تحذير المندوب الروسي لدى حلف الناتو من حملة عسكرية على دمشق تكون مقدمة لإقامة رأس جسر في الهجوم على إيران. وقبله تحذير رئيسه ديمتري ميدفيديف نظيره السوري بشار الاسد من «مصير حزين» إذا لم يستعجل الاصلاحات والمصالحة مع المعارضة واستعادة السلام وإقامة دولة حديثة! على رغم كل رسائل التنديد والادانة التي حملها الأسبوع الفائت إلى دمشق، لا تبدي الولاياتالمتحدة وأوروبا وتركيا ودول الخليج رغبة صريحة في رؤية «مصير حزين» للأسد، لأنها لا ترغب في رؤية «مصير حزين» لسورية على غرار النموذج الليبي. كما لا ترغب في رؤية المنطقة تقع فريسة حرب جديدة مع إيران. لكن السؤال القديم الجديد، هل يقدر النظام على إجراء إصلاحات جذرية وحقيقية و... الاحتفاظ بالسلطة؟ منذ البداية سادت شكوك واسعة في مثل هذا الاحتمال، لذلك لم يكن أمام هذا النظام خيار سوى خيار اللجوء إلى الحل الأمني. وتعزز هذا الخيار ويتعزز أمام تعثر الحلول التي اتبعت في ليبيا واليمن، وأمام ما يجري في القاهرة وتونس. ولم يكن أمامه سوى اللجوء إلى إيران التي لا يمكن أن تهادن أو تسكت عن فقدان مواقع جهدت طوال ثلاثين عاماً في بنائها.