لا يزال شبح الخسارة أمام أوروغواي في نهائي مونديال 1950 يطارد البرازيليين، فواقعة «ماراكانزو» تحفر دائماً في نفوسهم. ولعلّ أعمق آثارها ما تركه ألسيدس غيغيا، الوحيد المتبقي على قيد الحياة من منتخب ال«سيليت» بطل العالم عامذاك. في 16 تموز (يوليو) 1950، وجد حارس البرازيل باربوزا الذي كان ضيف شرف طوال الدقائق ال 70 الأولى من المباراة، نفسه فجأة مدعواً إلى الدفاع عن عرينه ببسالة. حتى كانت الدقيقة 80 حين سجل غيغيا هدف الفوز لأوروغواي وسط ذهول الجميع الذين لم يصدقوا ما تراه أعينهم. وما إن أعلن الحكم إنتهاء المباراة حتى تحوّل إستاد ماراكانا إلى ساحة نحيب، بعدما كان لساعة مهرجاناً كروياً في حدّ ذاته. عادت الكأس إلى مونتيفيديو بعد 20 عاماً، علماً أن أوروغواي لم تدافع عن لقبها عام 1934، وتغيّبت عن النسخة الثانية عام 1938. يتذّكر غيغيا أن باربوزا كان متقدّماً قليلاً عن مرماه، «لمحت الزاوية جيداً فعالجته بتسديدة مباغتة، بينما ظنّ أنني سأمرر إلى شيافينو». يؤكد غيغيا (87 عاماً) أن المشهد لا يزال ماثلاً أمامه «أعيشه في كل لحظة، واحتفظ بتسجيلات التعليق الإذاعي عن المباراة. وخبأتها زوجتي وحسناً فعلت، لأنني لا أستطيع الاستماع إليها خشية الانفعال والإصابة بسكتة قلبية». تلك الواقعة جعلت من غيغيا بطلاً استثنائياً، ومن باربوزا ملعوناً. فقد أصيب 200 ألف متفرّج على المدرجات ومثلهم خارج الملعب بذهول قاتل، تحوّل إلى «فاجعة». وفي التاريخ ثلاثة فقط فرضوا الصمت على أرجاء ماراكانا، هم: بابا الفاتيكان، المعني فرانك سيناترا وألسيدس غيغيا. عام 2009، تلقى غيغيا دعوة من الاتحاد البرازيلي لكرة القدم لمناسبة تدشينه رصيفاً للمشاهير يحيط بماراكانا، وأراد تكريم «الخصم اللدود» بترك بصمتي قدميه على عتبة المدخل. فأوردت الصحف «لقد عاد شبح الماراكانا». وحين تعرّفت عليه موظفة ختم الجوازات في مطار ريو دي جانيرو، رحّبت به بامتعاض وقالت له: «عام 1950 لم أكن ولدت بعد، لكني أحمل ندوب ذلك الجرح مثل البرازيليين جميعهم». يؤمن غيغيا بالقدر الذي جعله يرفض عرضاً من أتلانتا الأرجنتيني عام 1948، ويتمسّك بالانتقال من بروغريزو إلى بينارول النادي الذي أحبه منذ نعومة أظفاره. ويوضح: «وقتذاك كان مستوى النجوم أفضل في الداخل، ما سهّل استدعائي للانضمام إلى المنتخب»، ما فتح أمامه طريق «الشهرة والمجد». كما ساعده القدر مجدداً بعدما نجا من حادث سير هو وزوجته عام 2012. فبقي شهراً في غيبوبة وأصيب بكسور عدة، علماً أنه لم يصب مرة طوال 28 عاماً أمضاها في الملاعب. ولا يزال غيغيا الذي يتمتع بصحة جيدة، يوقّع أوتوغرافات لمعجبين. يستوقفه كثر في الطريق ويعرّفون صغارهم عليه، ويقولون لهم أنه من أبكى البرازيل يوماً. ويعتبر أن هذا التقدير «بمثابة منشّط أبقاني حياً حتى الآن». في المقابل مثلاً، لم يسمح لكابتن المنتخب أوبدوليو فاريلا بالدخول لحضور إحدى المباريات، لأنه لم يكن يحمل تذكرة تخوّله ذلك، إذ لم يتعرفوا عليه! يلخّص غيغيا مسيرته الكروية بأنها رواية جميلة، وعمّر في الملاعب حتى سن ال42 بفضل حرصه على نظام غذائي وصحي صارم، وتدريب قاسٍ وسلوك قويم. كما لعب في آ. اس. روما (1953 – 1961) وأي سي ميلان (1961-1962). ونظراً لحمله الجنسية الإيطالية من جديه، استدعي إلى ال«أتزوري» (1957 - 1959). والطريف في هذه المسيرة، أن حكومة أوروغواي خصصت منحة شهرية لكل أبطال مونديال 1950 مقدارها 12 ألف بيزوس وقتذاك (نحو 377 يورو). وفي تسعينات القرن الماضي، سقط اقتراح أحد نواب رفع هذا التعويض إلى 150 ألف بيزوس (نحو 1570 يورو). ولما أراد الاتحاد الأوروغواياني تكريم الأبطال، قرر منح الإداريين ميداليات ذهبية، واللاعبين ميداليات فضية الذين قاطعوا الاحتفال احتجاجاً على هذا التمييز. ولم يتراجع الاتحاد عن قراره إلا بعد مدة طويلة. بعد اللقب العالمي، عيّن غيغيا مفتشاً في الكازينو البلدي في موتيفيديو، وخصصت له نسبة 1 في المئة من المداخيل، لكن ما كان يجنيه لم يتعدَّ يوماً ال8 آلاف بيزوس شهرياً. وبعد تقاعده افتتح وزوجته التي تصغره ب45 عاماً، مدرسة لتعليم قيادة السيارات. يقول غيغيا إن الحكومة مديونة لأرامل لاعبي منتخب 1950 ولي. ويكشف أنه اضطر لبيع تمثال ذهبي يمثّل قدمه التي سجل بواسطتها في مرمى البرازيل ب40 ألف دولار، لشراء أرض وبناء منزل لم يستكمل حتى الآن!