عندما كنت في مهمة رسمية إلى المملكة المغربية الشقيقة وصلتني رسالة جوال من الأخ عادل الغانم يخبرني بوفاة والده الشيخ عبدالله الغانم، رحمه الله. كان وقع الخبر لرجل له مكانة كبيرة في نفسي، صدمة قوية لي. بموته انقطع صاحب الصوت الجهوري، رجل يتفق على حبه الجميع، يقدم أعمالاً جليلة ولا يتباهى بها، دائماً ما يحرص على مساعدة الآخرين، على رغم زحمة أعماله وكثرة انشغالاته، لا تُطلب منه شفاعة إلا قدمها. بل يتابعها بنفسه حتى تنتهي. رجل خدم دينه ووطنه، وما استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز لأبنائه وتعزيتهم فرداً فرداً إلا دليل على أهمية هذا الرجل وعلو قدره في هذا الوطن، إذ يعد رئيس الاتحاد العالمي لشؤون المكفوفين الشيخ عبدالله بن محمد الغانم - رحمه الله - رمزاً من رموز التحدي، ورائداً من رواد التربية والتعليم بالمملكة، إذ قدم طيلة سني حياته الكثير من الجهد والوقت في سبيل خدمة دينه ووطنه. رحل عن الحياة وقد خلف إرثاً كبيراً للمكفوفين، خصوصاً أن مشواره الإنتاجي بدأ مع المكفوفين منذ عهد الملك سعود، واستمر في عهد الملك فيصل، وكذلك الملك خالد، والملك فهد، والملك عبدالله، لذا يعد أباً روحياً للمكفوفين كافة. بنظرة إلى إنجازاته نعلم أي خسارة فقدها الوطن بموته، فهو أسس ورعى برنامج التعليم الخاص بالمعوقين بالسعودية عام 1377ه، كما أسس ورأس المكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين 1937، وأسس ورأس الاتحاد العالمي للمكفوفين بالمملكة بالرياض «تشرين الأول (أكتوبر) 1984» بعد دمج الاتحاد الدولي للمكفوفين والمجلس العالمي لرعاية المكفوفين، إذ أسهم الاتحاد في تطوير اتفاق الأممالمتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وحماية المكفوفين وضعفاء البصر، إضافة إلى أنه أول سعودي كفيف يمثل السعودية في الأممالمتحدة والمحافل الدولية لمدة 20 عاماً منذ عام 1382ه، وأول من أسس تعليم المكفوفين في المملكة عام 1367ه، وهو أيضاً من نفذ مشروع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم بطبعة «برايل»، ووزع على المكفوفين في الشرق الأوسط عام 1400ه، وقام بإنشاء ثالث مكتبة ناطقة في العالم، والأولى في الشرق الأوسط بالرياض عام 1396ه، وقام بتوحيد كتابة برايل في الشرق الأوسط، وإنشاء أول حاسب من نوعه في الشرق الأوسط والثالث عالمياً للطباعة بطريقة برايل وطباعة المناهج الدراسية والكتب للمكفوفين عام 1402ه توزع مجاناً للمكفوفين، كما طبع القرآن الكريم بطريقة برايل بدعم سخي من الملك فهد بن عبدالعزيز - رحمه الله - عام 1406ه، ووزع على المكفوفين في الشرق الأوسط. لقد نحت الشيخ الغانم، رحمه الله، اسمه في سجل الشرفاء والعظماء، رهن حياته لخدمة فئة لا تزال تعاني في الحياة وتكابد من أجل حقوقها، أثبت أن فقدان البصر ليس حائلاً أمام النجاح والطموح، أثبت أن العمى الحقيقي هو فقدان البصيرة لا فقدان البصر. إن وجود أمثلة عاشت بيننا واستطاعت أن تخط النجاح بأيدٍ عصامية لهو أبلغ أثراً من التنظير، فنحن في زمن نحتاج إلى القدوات أكثر من حاجتنا إلى المنظرين. نحن في زمن نحتاج إلى القادة العاملين والمنتجين أكثر من المنخذلين. حري بالمكفوفين كافة أن يجعلوا منه، رحمه الله، قدوة لهم في حياتهم. حري أن يفخر الوطن بمثله. وحري بنا أن نردد سيرته في كل محفل، لنتعلم كيف نجعل من «المحنة» «منحة»؟ وكيف نوقد الشموع بدلاً من لعن الظلام؟ اللهم اغفر له وارحمه واعف عنه، وأكرم نُزُله ووسع مُدخلهُ، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله داراً خيراً من داره، وأهلاً خيراً من أهله، وزوجاً خيراً من زوجه، وأدخله الجنة. اللهم ارفع درجته في العليين، واجمعنا به في الفردوس الأعلى مع النبيين والصديقين والصالحين وحسن أولئك رفيقاً. [email protected]