افتقدت المملكة والعالم الشهر الماضي الشيخ عبد الله محمد الغانم، أحد أبرز الشخصيات المؤثرة في مسيرة التعليم، خاصة فئة المكفوفين. وكانت مسيرة حياته حافلة بالعطاءات والإنجازات، من خلال ما كان يسند إليه من مهمات ومسؤوليات، إذ كان رئيسا لمجلس إدارة معهد النور في الرياض، ورئيسا للمجلس الدولي للمعوقين والمكفوفين، ورئيسا للمكتب الإقليمي لشؤون المكفوفين، وأول من أسس التعليم الخاص «تعليم المعوقين» في المملكة، وأول كفيف عربي يقف على منصة الأممالمتحدة عدة مرات. الراحل كان قريبا للقلب والإنسانية، وبارزا في مجاله، قويا في إرادته، عصاميا في حياته. وندرك أن هذه السطور لن تغطى لمثله ممن أفنوا حياتهم للإنسانية، إلا النزر اليسير من تلك السيرة الثرية المليئة بالعزيمة والإصرار، وسط محيط من هذه الإنسانية المتجاوزة لحدود الوطن إلى آفاق أرحب. عادل (ابن الراحل) تحدث في البداية ل«عكاظ» عن أحد جوانب حياة والده، و كيف كان يقضي رمضان، ودلالات عدم استجابته لدعوات الإفطار خارج منزله، فقال «الوالد رحمه الله كان يرفض رفضا تاما قبول أية دعوة للإفطار في رمضان، لتفضيله أن يفطر جميع أبنائه معه على مائدة واحدة، فكنا نجتمع على الإفطار عنده، ويستقبل الضيوف وزواره بعد العشاء، فيما نذهب لارتباطاتنا، ثم نعود للمنزل لتناول طعام السحور معه». وأشار إلى أنه كان يخصص وقته من بعد صلاة العصر إلى صلاة المغرب لقراءة القرآن الكريم، والاستماع لإذاعة القرآن. وبعبارات الحزن والأسى، عبر أسامة (ابن الراحل) عن حزنه لما كان يعانيه والده من مرض عضال، قائلا: كان صبورا على ما ابتلاه به الله، وقد عاد من ألمانيا قبل وفاته بأيام بعد أن قضى عاما كاملا هناك للعلاج. وفي برنامج تلفزيوني قبل مرضه رحمه الله تحدث الغانم عن نشأته في جلاجل، مقدما وصفا دقيقا لها، متناولا جوانب شتى من حياته ومشواره الاجتماعي الذي كان يحمل في طياته رسالة إنسانية سامية. تحدث عن حياته ككفيف، ولكن الله سبحانه وتعالى عوضه عن بصره بأشياء كثيرة تميزه عن غيره من المبصرين، فتقلد المناصب الرفيعة، مع تمتعه بالثقة في النفس، والحضور المتميز وقوة الذاكرة. خرج الغانم من جلاجل مكسور الخاطر مهزوما على حد قوله «زعلت من أهل جلاجل»، فقد رفض أهلها أن يكون الغانم مدرسا في إحدى مدارسها لأنه كفيف، مع العلم أن عبد الله الغانم كان حافظا للقرآن الكريم الذي كان في السابق تدريسه معتمدا على التسميع فقط وليس الكتابة. وبعد هذا الرفض الذي كان بمثابة الحافز لمواصلة الدراسة، توجه الغانم إلى إكمال دراسته في الرياض، وتخرج في كلية الشريعة، وبعدها بدأ التفكير في مسيرة حياته المستقبلية وأهدافه، فعقد العزم على إنشاء معهد للمكفوفين في المملكة، وسارت خطواته في هذا الاتجاه بمخاطبة المسؤولين والمختصين بهذه الفئة، حتى تطور الأمر ووصل إلى الملك سعود بن عبد العزيز، الذي لم يتردد في تقديم كل الإمكانيات التي تساهم في تحقيق ذلك وكل ما من شأنه مساعدة فئة المكفوفين. وواصل الغانم رسالته بكل تفان وإخلاص نحو هدفه في مساعدة ذوي الاحتياجات الخاصة، ليس في المملكة فقط، ولكن في كافة الدول العربية والعالمية مهما تعددت الجنسيات وتنوعت اللهجات والأديان. واستحق بالفعل في نهاية المطاف أن يكون رئيسا للاتحاد العالمي لشؤون المكفوفين. وروى في حديثه، أنه أول من أدخل فكرة إنشاء مستشفى الملك خالد للعيون في الرياض، وأول من بادر لافتتاح معاهد خاصة للمكفوفين وذوي الاحتياجات الخاصة، وأيضا من قام بتعريب لغة البرايل إلى العربية في الحاسب الآلي من أجل المكفوفين. وكان يتقن اللغة الإنجليزية كتابة ونطقا، في حين كانت حدود طموحه ورغبته أن يكون مبصر العقل، أكثر ميلا من رغبته في البحث عن علاج لعينيه. واستطاع وهو كفيف أيضا تعلم الآلة الكاتبة والحاسب الآلي، مما يدل على عدم استسلامه للإعاقة، وليوصل رسالته للآخرين أن إعاقة الإنسان ليست في جسده وإنما في عقله. محمد الوعيل قال في حديثه عن الراحل: عندما تذكر جلاجل فإن اسمه يبرز كأحد الوجهاء فيها، وعندما تذكر العاصمة الرياض والنابغون فيها، فان اسمه أيضا يذكر بأحرف من نور، وعندما يذكر اسم بلادنا في مجال خدمة المكفوفين والمعوقين، فإن اسم عبد الله محمد الغانم بتوجيه من القيادة يكون له حضور مميز. وأضاف «عندما أكتب هذه السطور عن الشيخ الغانم رحمة الله عليه كمعلم لي في كثير من نواحي الحياة، فلأن الرجل يستحق ذلك بحق، فقد عرفته مخلصا لدينه ووطنه، وعرفته عاشقا حتى العظم لعمله في مجال المكفوفين طوال حياته، ليس على مستوى بلادنا فحسب، بل على مستوى العالم، فما زلت أتذكر عندما وقف في الأممالمتحدة يلقي كلمة المملكة، وما زلت أيضا أتذكر كيف استقبله الرئيس الأمريكي كأول كفيف بصفته رئيسا للاتحاد العالمي للمكفوفين، كما أتذكر أيضا مشواره منذ البدء مع المكفوفين بدعم من خمسة ملوك؛ سعود، فيصل، خالد، فهد، وعبد الله، والدعم المطلق من فارس الرياض سلمان بن عبد العزيز، والشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، والشيخ حسن آل الشيخ الذي مكنه من القيام بالعديد من الإنجازات لخدمة المعوقين والمكفوفين ليس في الوطن فحسب، بل في العالم كله». ويلخص الوعيل أبرز هذه الإنجازات في التالي: أولا: أسس ورعى برنامج التعليم الخاص بالمعوقين في المملكة عام1377ه. ثانيا: أسس ورأس المكتب الإقليمي للجنة الشرق الأوسط لشؤون المكفوفين 1937م. ثالثا: أسس، ورأس الاتحاد العالمي للمكفوفين في المملكة في الرياض، أكتوبر 1984م بعد دمج الاتحاد الدولي للمكفوفين والمجلس العالمي لرعاية المكفوفين، حيث ساهم الاتحاد في تطوير اتفاقية الأممالمتحدة لحقوق الأشخاص ذوي الإعاقة وحماية المكفوفين وضعفاء البصر. رابعا: أول سعودي كفيف يمثل المملكة في الأممالمتحدة والمحافل الدولية لمدة 20 عاما منذ 1382ه. خامسا: أول من أسس تعليم المكفوفين في المملكة 1367ه. سادسا: نفذ مشروع الملك فهد لطباعة القرآن الكريم بطبعة برايل، وتم توزيعه على المكفوفين في الشرق الأوسط عام 1400ه. سابعا: إنشاء ثالث مكتبة ناطقة في العالم والأولى في الشرق الأوسط في الرياض 1396ه. ثامنا: توحيد كتابة برايل في الشرق الأوسط . تاسعا: إنشاء أول حاسب من نوعه في الشرق الأوسط والثالث عالميا للطباعة بطريقة برايل وطباعة المناهج الدراسية والكتب للمكفوفين عام 1402ه، توزع مجانا للمكفوفين. عاشرا: طبع القرآن الكريم بطريقة برايل بدعم سخي من الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله 1406ه، ووزع على المكفوفين في الشرق الأوسط. وتكريما لسيرة هذا الرجل العطرة وتاريخه الحافل بالإنجازات، يمضي محمد الوعيل إلى القول «بقي أن أضع اسمه أمام رجل الإنسانية والمسؤولية، الأمير سلمان بن عبد العزيز بأن تقوم دار الملك عبد العزيز برعاية مكتبته التي أعرف أنها غنية بالكثير من المعلومات، كما أتمنى من الأمير سلمان أن يأمر بإطلاق اسمه على أحد شوارع الرياض، فهو رحمة الله عليه رجل يستحق ذلك». السيرة الذاتية للفقيد • ولد في عام 1353ه الموافق (1934م) في جلاجل في سدير. كف بصره وعمره ست سنوات. تلقى تعليمه الأول في الكتاتيب في جلاجل على يد الشيخ فوزان القديري رحمه الله. • في عام 1363ه (1944م) انتقل إلى الرياض وهو في عامه العاشر لإكمال تعليمه، حيث درس العلوم الشرعية والاجتماعية على يدي كل من فضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، ومحمد بن إبراهيم آل الشيخ مفتي الديار السعودية رحمهما الله. • في عام 1372ه (1953م) التحق بالمعهد العلمي، إلى أن تخرج في كلية الشريعة (جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية حاليا) سنة 1380ه (1960م). • تبنى عبد الله الغانم تعليم المكفوفين في المملكة بطريقة برايل، فسعى بجهوده الشخصية لإقناع المسؤولين في إدارة المعاهد العلمية والكليات بأهمية ذلك، والتي تكرمت عام 1377ه (1958م)، بإعارة مقر معهد إمام الدعوة في أثناء الإجازة الصيفية لتعليم المكفوفين طريقة برايل، فتعلم حينذاك نحو 15 كفيفا على يديه في مدة لا تتجاوز الثلاثة أشهر، ليكونوا لاحقا النواة التي علمت المكفوفين الكتابة والقراءة بطريقة برايل. • في عام 1378ه (1959م) وافقت وزارة المعارف آنذاك (وزارة التربية والتعليم) على فتح فصول مسائية في مدرسة جبرة الابتدائية في الرياض لتعليم المكفوفين تلك الطريقة بإشراف عبد الله الغانم، وخلال هذه الفترة تفضل الملك سعود رحمه الله بزيارة تلك الفصول، وتبرع بمقر في حي الظهيرة في مدينة الرياض ومطابع خاصة لطباعة برايل، وكان لهذه الزيارة صدى إعلامي كبير على مستوى المملكة حيث كتبت عنها الصحف ونقلت الإذاعة على الهواء هذا الحدث التاريخي، وهي خطوة كبيرة في إظهار أهمية تعليم و تأهيل المكفوفين. • حينما اقتنعت وزارة المعارف بجدوى تعليم المكفوفين، منحت المدرسة الدعم المالي وبعض وسائل برايل الخاصة بالخط النافر، وبهذا كانت الجهود الفردية المدعومة من قبل الجهات التعليمية البداية الحقيقية لوضع أسس التربية الخاصة في المملكة. • في عام 1380ه (1960م)، أمر وزير المعارف حينذاك، الملك فهد بن عبد العزيز رحمه الله بافتتاح أول معهد رسمي لتعليم المكفوفين في المملكة، وسمي (معهد النور) في الرياض، وتولى إدارته عبدالله الغانم، الذي كان يتولى أيضا الإشراف على إعداد برامج التربية الخاصة. • في عام 1382ه (1962م)، تم تأسيس إدارة التعليم الخاص بوزارة المعارف، وعين عبدالله الغانم مديرا لها بهدف التوسع وتقديم البرامج والخدمات التعليمية والمهنية والاجتماعية لثلاث فئات هي المكفوفون والصم والمتخلفون عقليا. • في عام 1389ه (1969م)، انتخب عبد الله الغانم رئيسا للجنة الشرق الأوسط في الجمعية العمومية للمجلس العالمي لرعاية المكفوفين في الهند. • في عام 1390ه (1970م)، عقدت لجنة الشرق الأوسط أول اجتماع لها في الرياض، وتدارست أوضاع المكفوفين في منطقة الشرق الأوسط، واتخذت 61 توصية، من ضمنها إنشاء مكتب إقليمي للجنة الشرق الأوسط في الرياض، ورفعت هذه التوصيات إلى الملك فيصل رحمه الله ، الذي أمر بتنفيذها على الفور. • في عام 1391ه (1971م)، اجتمعت هذه اللجنة مرة أخرى وأقرت ميزانية للمكتب الإقليمي تساهم فيها دول الخليج على النحو التالي: السعودية 45 في المائة، الكويت 15 في المائة، الإمارات 25 في المائة، قطر 10 في المائة، البحرين 5 في المائة. وقدم المكتب العديد من الخدمات التي يصعب حصرها، ومن ضمنها إنشاء مطابع خادم الحرمين الشريفين لطباعة القرآن الكريم بطريقة برايل، وإنشاء مركز الحاسب الآلي، الذي تمت فيه طباعة القرآن الكريم لأول مرة بطريقة برايل على الحاسب الآلي، وافتتاح معهد النور في البحرين، ومركز تدريب الكفيفات في الأردن. • تولى المكتب الإقليمي لفت أنظار جميع حكومات المنطقة بأهمية وتطوير تعليم المكفوفين، كما تولى بحث الجامعات قبول المكفوفين في كلياتها النظرية، وكذلك الإشراف على هؤلاء الطلبة في الجامعات، وتزويدهم بالتقنيات اللازمة، كما أنشئت المكتبة الناطقة التي زودت جميع المكفوفين بالتسجيلات للكتب الدينية والثقافية والعلمية، كما أصدرت مجلة الفجر ووزعت مجانا في جميع الدول العربية. • شغل عبد الله الغانم لاحقا عدة مناصب دولية، منها نائب لرئيس المجلس العالمي لرعاية المكفوفين والاتحاد الدولي للمكفوفين والمنظمة الدولية لتأهيل المعوقين . • في عام 1392ه (1972م)، تم تطوير إدارة التعليم الخاص، لتصبح المديرية العامة لبرامج التعليم الخاص أسوة بالإدارات العامة في التعليم العام، وعين عبد الله الغانم مديرا عاما لها، وانبثقت من تلك المديرية ثلاث إدارات هي؛ إدارة تعليم المكفوفين، وإدارة تعليم الصم، وإدارة التربية الفكرية. • في عام 1405ه (1984م)، أصبح أول كفيف عربي سعودي رئيسا للاتحاد العالمي للمكفوفين لمدة أربع سنوات 1405 1409ه (1984 1988م)، زار خلالها معظم الحكومات في مختلف القارات، وقابل قادتها ورؤساءها، وشرح لهم أهمية تعليم المكفوفين ومد يد العون لكثير من الجمعيات التي تقوم برعاية المكفوفين لا سيما في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، كما أنشئ في عهده الاتحاد الأفريقي واتحاد أمريكا اللاتينية وحل مشاكل الاتحادات السابقة بعد توفير الدعم المادي لها والإمكانيات الفنية. • كان عبد الله الغانم أول كفيف عربي سعودي يمثل حكومة خادم الحرمين الشريفين الملك فهد رحمه الله في الأممالمتحدة، وشارك في اجتماعاتها لإنشاء العقد الدولي للمعوقين، الذي امتد لعشر سنوات ما بين 1403 1413ه (1982 1992م)، وقد شارك في جميع نشاطات هذا العقد على المستوى الدولي والإقليمي، كما خاطب الجمعية العامة للأمم المتحدة عدة مرات، منوها فيها بخدمات حكومة المملكة للتطوير والعناية بجميع فئات المعوقين، حيث أصبحت هذه الخدمات مثالا نموذجيا على المستوى العالمي يحتذى به، كما حث الدول النامية على تعليم المكفوفين والمعوقين كل على قدر طاقته، ووضع استراتيجية طويلة المدى للنهوض بالمعوقين. • تقاعد عن العمل في عام 1417ه (1996م)، وحصل على العديد من الأوسمة والدروع التكريمية المحلية والإقليمية والدولية.