لا شك في أن الإجابة عن هذا السؤال ستستغرق أعواماً طويلة ولن تصل إلى درجة الإجماع على أي حال. غير أن حاجة الناخب الأميركي إلى إجابة قطعية سريعة يبني على أساسها خياراته في المرحلة المقبلة، تجعل التنافس على تقديم الإجابات الفورية التي تتسم بالقابلية للتصديق إحدى أهم المهمات في المعترك السياسي في الولاياتالمتحدة اليوم. وبقدر أهمية الإجابات المطروحة هذه، يأتي إخراج نتائج المفاوضات الحادة بين الرئيس والجمهوريين المسيطرين على مجلس النواب في الكونغرس حول رفع مستوى المديونية العامة، على درجة عالية من الحساسية. فالمواجهة بين الطرفين ليست حول الصيغة الكفيلة بمنع سمعة الولاياتالمتحدة كمرجعية اقتصادية في العالم من التدحرج، إنما كذلك حول تبيان أي من الطرفين، الرئيس أو خصومه، صاحب العزم الأقوى والقدرة الفعّالة على المناورة. والتنافس الإعلامي السائد في الولاياتالمتحدة اليوم هو بين قراءتين، إحداهما تعتبر أن الحزب الديموقراطي حين تولّى السلطة التنفيذية في المرة الأخيرة قبل العهد الحالي، أي في الولايتين المتتابعتين للرئيس السابق بيل كلينتون، وضع موضع التنفيذ تصوره الذي وازن الموازنات وأصلح برامج الرعاية وضمن استمرار مخصصات التقاعد على المدى البعيد، وحقق الرخاء للبلاد. فالأزمة الحالية، وفق هذه القراءة، تقع مسؤوليتها في شكل واضح على الحزب الجمهوري الذي تولّى الحكم بعد كلينتون، في الأعوام الثمانية لرئاسة جورج دبليو بوش. إذ خلال هذه الأعوام، تبنّى الجمهوريون في الحكم حسوماً ضريبية استفاد منها ذوو الدخل المرتفع، ما خسّر الخزينة قدراً كبيراً من المدخول، فيما هم أقدموا على إنفاق دفاعي منقطع النظير في إطار حروب بعضها إلزامي والآخر اختياري، وقلّصوا الدور الرقابي للحكومة، ما أتاح المجال أمام ممارسات مشبوهة في القطاعين المالي والعقاري، تسببت في نهاية المطاف بانهيارهما معاً، والدخول في متاهة اقتصادية لا يزال الخروج منها مستعصياً. والجهد الذي يبذله طاقم الرئيس أوباما اليوم هو لانتشال البلاد من هذا المأزق، ولكن أيضاً للتأكد من أن عبء هذا الانتشال يقع على عاتق من استفاد من السلوكيات الطائشة خلال الأعوام الماضية، وليس على المواطن العادي. فالسردية الديموقراطية باختصار هي: كلينتون حقق، بوش فرّط، أوباما يصحح، الأثرياء استفادوا بالأمس فعليهم اليوم أن يسددوا. أما السردية الجمهورية المقابلة فتكاد أن تكون على النقيض من السابقة في كل وجه. فما تحقق من رخاء وموازنة موازنات وإصلاحات في عهد الرئيس الأسبق كلينتون لم يكن إنجازاً للديموقراطيين، بل قطف ثمار ما زرعه الرئيس رونالد ريغان في الثمانينات، سواء من حيث رفع القيود عن القطاعات الاقتصادية المختلفة ما أطلق العنان للإبداعية والانتاجية التي تجسدت في التسعينات، أو من حيث تشديده في الضغط على الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى دفعه إلى الانهيار، محرراً جزءاً كبيراً من البشرية ومفسحاً المجال أمام عولمة جديدة. فالفضل ليس لكلينتون، وإن جرى ما جرى في عهده، بل لريغان الجمهوري. وإذا كان ثمة ثناء من نصيب كلينتون، فهو في إدراكه عقمَ التوجهات التقدمية (وهي التي شرع الرئيس الحالي أوباما بتطبيقها) واتخاذه منحًى وسطياً لم يعرقل تحقق الإنجاز. أما الإنفاق المنسوب إلى عهد بوش، فالسردية الجمهورية لا تنفيه، ولكنها تقسّمه إلى «ضروري»، لا سيما منه المتعلق بالمجهود الحربي، و «غير ضروري»، وهو الذي سعى إليه الديموقراطيون أنفسهم وأخطأ بوش والجمهوريون في المواقفة عليه. ولا تختلف السرديتان في الإشارة إلى الفقاعة العقارية والتي انفجرت في أواخر عهد الرئيس بوش بصفتها المسبب المباشر للأزمة المتشعبة اليوم، إذ تجمعان على أن المشكلة ابتدأت مع التسويق لقروض غير منضبطة ذات فترات أولية بفوائد منخفضة حصل فيها الكثير من المواطنين على مبالغ من المتعذر، إن لم يكن من المستحيل، عليهم أن يسددوها، ومن ثم جرى جمع هذه القروض في محفظات مالية وترويجها كأداة استثمارية عالية العائدات، ما أدى إلى توريط برامج تقاعدية وصناديق استثمارية عدة بها. فلمّا بدأت هذه الفترات الأولية بالانتهاء، لم ينكشف أصحاب العقارات غير القادرين على التسديد وحسب، بل انهارت المنظومة الاستثمارية بكاملها أو كادت، ما استوجب التدخل الطارئ للسلطات منعاً للانهيار الكامل. لكن تفسير السرديتين طبيعةَ المسألة يختلف في شكل جذري. فالديموقراطيون يعتبرون أن تراجع القيود والرقابة هو ما أتاح المجال للممارسات التي أدّت إلى الفقاعة العقارية، فيما يشير الجمهوريون إلى إصرار خصومهم على تمرير برامج تملك عقاري تكون بمتناول الطبقات الاقتصادية الدنيا من دون اعتبار لقدرات أفراد هذه الطبقات على تحمل الأعباء على المدى الطويل. فالديموقراطيون يعتبرون أن سبب الأزمة هو تغييب الجمهوريين الدورَ الحكومي، والجمهوريون يعتبرون أن السبب هو التطفل الحكومي على السوق العقارية لغاية هندسة اجتماعية فاشلة حتماً. وكما تختلف السرديتان في توصيفهما لخلفية الأزمة ومسببها، فإنهما تتعارضان في اعتبارهما للحل. فتصحيح الوضع الراهن من وجهة نظر الديموقراطيين هو في تولي الحكومة دوراً أكبر في مراقبة القطاعات الحساسة وفي مضاعفة الإنفاق الموجه الهادف إلى حماية المتضررين من العبث الماضي، فيما يعتبر الجمهوريون أن المطلوب انكفاء الحكومة، إذ هي تتسبب في تعكير أجواء التقدم الاقتصادي وليس تمكينه. والكلام حول رفع الضرائب على الأثرياء، والذي يتجاهل أن الغالبية العظمى من العائد العام تأتي لتوّها من مساهمة الشرائح العليا، هو مناورة شعبوية قد يستفيد منها الديموقراطيون انتخابياً، في حين أن النتيجة الفعلية لهذا الرفع هي تقليص قدرة المجتمع على التنشيط الاقتصادي. فالحل ديموقراطياً هو في الاستمرار في الإنفاق مع إلغاء للإعفاءات الضريبية وتحميل الأثرياء عبء تصحيح الوضع القائم، فيما الحل جمهورياً هو في تمكين القطاع الخاص من تحقيق التنشيط الاقتصادي وتحميل برامج الدولة مسؤولية التردي. سرديتان متناقضتان، ورؤيتان بالغتا الاختلاف. وإن كانت التفاصيل تغيب عن كل ناخب، فإن الانطباع بأن أحد الطرفين قد انتصر على خصمه في التصور لصيغة رفع المديونية من شأنه أن يرجح السردية المصاحبة، والحظوظ الانتخابية لأنصارها.