هذه هي المرة الثانية خلال مساره السينمائي، الذي بات عمره يزيد عن ربع القرن، التي يحقق فيها الإسباني بيدرو ألمودوفار فيلماً جديداً له منطلقاً فيه من نصّ أدبي سبق وجوده وجود الفيلم، ومن موضوع لم يكتبه هو ولا ابتكره. كانت المرة الأولى في فيلم اقتبسه من الكاتبة البوليسية الإنكليزية روث راندل عنوانه «باللحم والعظم» (1997)، اما هذه المرة، فإنه اقتبس فيلمه الجديد من الكاتب الفرنسي الإسباني تييري جونكيه ليعطيه عنواناً لم يكن له في النصّ الأصلي، لكنه يأتي وكأنه خلق من أجله، او بالأحرى من أجل فيلم جدير بالدخول في فيلموغرافيا مبدع سينمائي ينصّ منذ بداياته على ان يكون المؤلف الوحيد لفيلمه. وبهذا نعني منذ البداية هنا، أن ألمودوفار لو لم يجد هذه الإمكانية في نصّ جونكيه لما استحوذ عليه ليحوّله فيلماً من إبداعه. والواقع ان الأمر يبدو هنا وكأن الكاتب نفسه وضع النص أصلاً وفي ذهنه سينما ألمودوفار. بكلمات اخرى – ومن دون أن يعني هذا القول أيَّ حكم قيمة –، يبدو الفيلم الجديد «الجلد الذي أسكنه» فيلماً ألمودوفاريّاً بامتياز. من ناحية اللغة السينمائية طبعاً، وهذا أمر مفروغ منه، ومن ناحية الموضوع الأساس في الفيلم: تحوّل الجسد الى حد الامِّساخ أحياناً – ولسنا في هذا الفيلم الجديد أمام حالة متطرّفة من هذا النوع – وعبور الخط الجسدي الفاصل بين الجنسين، وهو عبور يهيمن على الموضوع هنا. الجميلة هي الوحش في إطار هذه الحبكة، لا شك في أن «الجلد الذي أسكنه» يحيل مباشرة إلى تحولات تشكّل موضوع –أو أحد مواضيع– بعض آخر أفلام ألمودوفار، من «كل شيء عن أمي» إلى «التربية الفاسدة» مروراً حتى بالفيلم الجميل «تكلّم معها». بيد ان الاستخدام هنا في الفيلم الجديد يختلف جذرياً طالما أننا نعرف منذ البداية ان الحبكة في الفيلم الجديد بوليسية، وأننا أمام ما يشبه تحويلاً لحكاية «فرانكنشتاين»، إنما بشكل معكوس في ظاهره. معكوس مع أن النتيجة واحدة: فإذا كان الدكتور فرانكنشتاين خُلق وحشاً في رواية ماري شيلي الشهيرة، وحشاً هو كذلك في شكله ومضمونه، فإن الدكتور ليدغار (أنطونيو بانديراس) في فيلم ألمودوفار هذا خلق وحشاً جميلاً على شكل امرأة فائقة الحسن سينتهي بها الأمر لأن تُظهر «وحشيتها» تجاهه هو وحده بوصفه خالقها لا أكثر ولا أقل. هنا قد يكون علينا ان نبادر للإشارة إلى أن الفعل الذي يقدم عليه دكتور ألمودوفار لا ينطلق من ضرورات علمية، حتى وإن كان علميَّ المجرى والنتيجة، بل ينطلق من دوافع خاصة ذاتية الجذور: فالدكتور ليدغار حين قام بتجربته «العلمية» كان هدفه انتقامياً بالأحرى. أما موضوع التجربة، فهو تغيير جنس كائن بشري من خلال تغيير جلده. وهذا الكائن يمكننا – حتى من دون الدخول في تفاصيل قد تفسد على راغبي مشاهدة الفيلم متعتهم، إذ ستبدأ عروضه بعد أيام – أن نقول إنه ذكرٌ اشتغل عليه الدكتور كي يحوله الى انثى... وأكثر من هذا، إلى أنثى رائعة الحسن (إيلينا آنايا، الجديدة في عوالم ألمودوفار)... رائعة الى درجة ان الرغبة الانتقامية لدى الدكتور ستتحول الى غرام جارف لم يكن هو ليتوقع أن يسيطر عليه. وطبعاً لم يكن ليتوقع بالتالي ان تكون فيه نهايته. وهنا، قد يصح ان نفتح هلالين لنستعير من المشهد الختامي في فيلم «كينغ كونغ»، تلك العبارة التي ينطق بها صاحب مشروع عرض الغوريلا على الجمهور، حين يسمع تعليقاً بأن القرد قتلته الحضارة، فيجيب: لا... بل قتله الجمال. وهذا القول ينطبق هنا على الدكتور ليدغار، الذي قتله في نهاية الأمر «الوحش» الذي خلقه بنفسه. الوحش الجميل الذي طلع من بين يديه في تجربته العلمية التي كان انطلاقه فيها انتقامياً كما أشرنا. وكي لا يبدو السياق أشبه بالكلمات المتقاطعة، سنحاول فقط إعطاء بعض المفاتيح الحدثية التي قد تشكل مدخلاً للفيلم دون ان تستبق على متعة اكتشافه، فالدكتور ليدغارد طبيب معروف بارع في عمله، كان يعيش عيشاً بورجوازياً أنيقاً هادئاً مع زوجة حسناء مُحِبّة وابنة مراهقة طيبة. ويحدث ذات يوم، وبفعل ظروف غير محددة تماماً، ان يفقد الدكتور ابنته وزوجته. يقوم ليدغارد بتحقيقاته الخاصة وينتهي الى العثور على المسؤول عن دمار عائلته، ويقرر ان ينتقم بشكل يتماشى مع تجارب علمية يقوم بها حول قماشة الجلد البشري. الشاب الذي اختفى إثر ذلك، يختفي شاب بسيط في البلدة الصغيرة وتفشل كل الجهود للعثور عليه. وبالتوازي مع ذلك ينكبّ الدكتور على مواصلة عمله وتجاربه، كما على عيش حياته دون تغييرات تذكر. وتقودنا الكاميرا في رحلات داخل دارة الطبيب ومحترَفِه – وبالأحرى هي كانت قد بدأت تقودنا في هذه الرحلة منذ المشاهد الأولى في الفيلم حيث نكتشف وجود تلك الحسناء، بدءاً من تغليفها بجلد اصطناعي قبيح يلفّ جسدها كلّياً حتى تتدرج بنا مشاهدها حتى النهاية غير المتوقعة طبعاً–، إنما بالتوازي مع مشاهد أخرى تعود بنا زمنياً الى فترات سابقة كي نعرف بالتدريج ما الذي حدث، ليؤدي الى هذا الواقع الجديد ثم لنكتشف بالتدريج العلاقة بين ذات الدكتور وحياته الخاصة وما حدث له مع هذه التجارب العلمية المذهلة التي يقوم بها. والحقيقة ان ألمودوفار، على رغم التشويقية الهتشكوكية التي اتسم بها فيلمه اول الأمر، وتجعله يبدو أقرب الى سينما التشويق ممزوجة بالخيال العلمي، سرعان ما يستعيد العلاقة مع سينماه الخاصة، بحيث يبدو الفيلم خلال نصفه الثاني فيلماً موضوعه الحب والجسد والرغبة والتبادل والنوايا المضمرة والظاهر والباطن، وكلّ تلك العناصر التي لطالما هيمنت على سينماه. في الحقيقة، يبدو ان هذا المزيج الذي شاءه ألمودوفار خلاّقاً وتجديدياً في سينماه، لم يظهر للمشاهدين، جمهوراً عادياً ونقاداً، متمفصلاً بإحكام. ومن هنا، لم يستسغ الفيلم كثرٌ من هؤلاء، وبالتالي خرج صاحبه من المولد في مهرجان «كان» من دون حمّص... ومرّ الفيلم من دون أن يلفت الأنظار حقاً. ومع هذا، من المتوقّع له ان يحقق - خلال عروضه المقبلة - نجاحاً جماهيرياً لا بأس فيه. وربما سيكون ذلك بفضل الكتابات النقدية اللاحقة، التي - بعد ما يمكننا ان نسميه «صدمة المشاهدة الأولى»، والتي تسببت في رفض أوّلي وجزئي للفيلم - أتت تعديلات النظرة الثانية، التي في وسعنا بشيء من التحفظ ان نقول إنها عدّلت في الموقف العام من الفيلم بعض الشيء. ولربما سيكون من الإنصاف هنا ان نقول ان هذا الفيلم سوف يأخذ مكانه بالتدريج في سياق فيلموغرافيا بيدرو ألمودوفار، من دون ان يعني هذا أنه سيأتي وقت يوضع فيه «الجلد الذي أسكنه» في مصاف الأعمال الكبيرة لهذا المخرج الإسباني الكبير، مثل «كل شيء عن أمي» و «العودة» و «نساء على حافة الانهيار العصبي»... وغيرها من أعمالٍ كرَّسته واحداً من أكبر مبدعي الفن السابع في اوروبا، لكنها -ويا للمفارقة المزعجة!!- لم تمكّنه من ان يحوز على أي سعفة ذهبية في أي دورة من «كان» حتى اليوم، مع ان جوائز كبرى أعطيت في المهرجان نفسه وعلى مدى سنوات ماضية لبعض أفضل ممثلاته!