تتجه الفنون، والأكثر شعبية من بينها خصوصاً، في أزمان التأزم والكوارث الاجتماعية، الى طرح نفسها، امام جموع المهتمين بها، على شكل تعويذة او تعويض، همّه الرئيس ان يخفّف عن اولئك الناس وقع الصدمة الناتجة عن التأزم، عبر خلق حيّز فاصل بين ما هو معيوش في الحقيقة، وبين ما يمكن ان يخلق طبعة ثانية في الخيال. وتحديداً عبر استخدام الخيال الفني. من هنا تكثر فنون الكوارث والرعب في مثل تلك الازمان. غير ان المبدعين الأكثر ذكاء يحاولون عادة ان يضفوا على المنتجات الفنية، في نهاية الامر، نزعات انسانية مؤكدة مهما كان حجم الغرابة والقلق اللذين تتسم بهما مثل هذه الانتاجات، في مثل تلك الازمنة. والحال ان المخرج الاميركي - الانكليزي الاصل - جيمس وال، شراكة مع كاتب السيناريو ويليام هارلبات، كان من هؤلاء. وكيف لا يكون هكذا، فنان تمكن حتى من ان يضفي صفات انسانية واضحة على ذلك الكائن الذي كان يعتبر - حتى ذلك الحين - من اكثر الشخصيات الروائية وحشية وإثارة للرعب؟ كانت تلك الشخصية شخصية الكائن الوحشي الذي كان الدكتور فرانكنشتاين الشهير في عالم أدب الرعب، قد خلقه داخل مختبراته، والذي كان ظهر في الكثير من الاعمال الادبية والسينمائية قبل ذلك مثيراً خوف ملايين المتفرجين. والغريب ان هؤلاء المتفرجين اعتقدوا - وربما لا يزالون يفعلون حتى اليوم - ان فرانكنشتاين هو اسم الوحش، مع انه اسم العالم الذي خلقه في داخل مختبراته. مع هذا، في شكل عام، فإن من يشاهد فيلم جيمس وال المعنون «خطيبة فرانكنشتاين» سيجد ان الحدس العام لم يكن - في نهاية الامر - مخطئاً... ذلك ان هذا الفيلم يعيد الامور الى نصابها حقاً: يقول لنا ان الانسان العالم هو، بعد كل شيء، الوحش الحقيقي. اما الوحش المخلوق فإنه سيبدو اكثر انسانية. وكان هذا «تجديداً» اساسياً في التعامل مع تينك الشخصيتين. كان تجديداً... لكنه كان في المقام الاول، استعادة لجوهر الحكاية الاصلية التي كانت كتبتها ماري شيلي، خطيبة الشاعر شيلي، ذات حقبة مظلمة وممطرة احست فيها ان عليها ان تسري عن نفسها بالكتابة، فانصرفت وحيدة الى أوراقها، لتخلق تلك الشخصية في رواية نعرف انها قلدت كثيراً بعد ذلك... ولا تزال تقلد الى اليوم. مهما يكن، فإن جيمس وال، في «خطيبة فرانكنشتاين»، يضعنا منذ بداية الفيلم، على تماسّ تام مع الكاتبة، قبل ان ينتقل بنا الى عالم فرانكنشتاين ومخلوقه. ذلك ان أحداث الفيلم تبدأ في انكلتزا القرن التاسع عشر، من حول سهرة ثرثرة ودية يشارك فيها ثلاثة كتاب اصدقاء: ماري شيلي نفسها، وشيلي واللورد بايرون. وفي ذلك الحين كانت ماري شيلي تعيش افضل العلاقات مع زوجها الشاعر وصديقهما المشترك. وخلال السهرة يأتي الاصدقاء الثلاثة على ذكر المصير الدرامي الفاجع الذي كان من نصيب ذلك المخلوق المرعب الذي كان العالم دكتور فرانكنشتاين قد خلقه... ويتبين لنا من خلال النقاش بين الثلاثة، ان ذلك المخلوق لم يمت، كما كان الجميع يعتقدون، خلال ذلك الحريق الذي اندلع بفعل تحركات اهل القرية الغاضبين المرتعبين. وكان ذلك، هو على أي حال، الفصل الذي اختتم الرواية الاصلية التي كتبتها ماري. بيد اننا هنا سنكتشف ان الناس خيل اليهم في تلك الخاتمة ان الوحش قد مات في الحريق. اما الحقيقة فهي ان الوحش تمكن من النجاة بنفسه ليجد مأوى له عند ناسك غريب الأطوار يعيش في كوخ وسط الغابات. وعلى هذا النحو، اذ نزوّد بهذه المعلومات المهمة، تبدأ الحكاية الجديدة، ولكن ضمن اطار مختلف الى حد كبير: ذلك انه سرعان ما سيتبين لنا ان الناسك، اذ احاط الوحش بعنايته، عمد الى تعليمه بعض قواعد الحياة الانسانية، ما ادى - كما يمكن ان يكون متوقعاً - الى وسم الوحش بنزعات انسانية، ستظهر لنا خلال الاحداث الباقية من الفيلم، في شكل تدريجي. غير ان هذه التربية الجديدة، لن يمكنها انقاذ الوحش من تعسّف خالقه، الدكتور فرانكنشتاين، ولا من فضول العالم الجهنمي الآخر الدكتور بريتوريوس، زميل فرانكنشتاين وصديقه، والذي لا يكف عن محاولة اقناع خالق الوحش، بأن يواصل الاهتمام به. فكيف يتعين ان يكون الاهتمام هذه المرة؟ ببساطة، يجب الآن على فرانكنشتاين ان يخلق للوحش كائناً جديداً، هو انثى يزوجه بها على امل ان يتم التزاوج بين «الوحشين» وتكون النتيجة ايجاد نوع جديد من الكائنات التي يمكن التحكم بها. بعد تردد لا يدوم طويلاً، يقتنع الدكتور فرانكنشتاين بالفكرة، ويعمد بالفعل الى خلق الكائن الانثى، وكله اعتقاد بأنه سيكون قادراً على التحكم بها تماماً، ما يعني انها، اذ تتحكم بدورها بزوجها، سيصبح في وسع العالم ان يتحكم بما يلي من تصرفاتهما ويمكنه من السيطرة عليهما وعلى الكون بالتالي. وهكذا في ليلة عاصفة مرعبة، تتجسد الفكرة الجديدة، انثى كاملة تدعو ذكرها اليها. ولكن سرعان ما سيتبين لنا ان هذه الانثى ليست مطواعة لفرانكنشتاين كما كان يريد، بل ان لديها من ردود الفعل وحرية التصرف ما يناقض كلياً مخططات، العالم وزميله، المجنونة... وتكون النتيجة ان انفجار المختبر في نهاية الامر، يأتي ليضع حداً لمشروع العالم الشرير. يقول الناقد الراحل كلود بيلي، في مقال له عن فيلم «خطيبة فرانكنشتاين» ان هذا الفيلم قد كسر القاعدة التي كانت تقول انه لم يحدث ابداً لفيلم يستعيد موضوع فيلم سبقه ليكمله او يستأنفه ان أتى متفوقاً على الفيلم السابق. دائماً تكون الارجحية للفيلم الاول. والفيلم الاول كان جيمس وال نفسه قد حققه قبل ذلك بسنوات، مباشرة عن رواية ماري شيلي، واعتبر حينها واحداً من افضل افلام الرعب في تاريخ الفن السابع. وقال كثر ان جيمس وال لن يستطيع ابداً تجاوز ذلك الفيلم، ولكن حين عرض «خطيبة فرانكنشتاين» بدا واضحاً ان وال تجاوز نفسه... ليس فقط من ناحية الأبعاد التقنية والجودة الفنية التي اتسم بها الفيلم الجديد. بل خصوصاً من ناحية جوهر الفيلم وموضوعه. فالموضوع هنا اتى إنسانياً الى ابعد الحدود، ولكن في شكل مقلوب تماماً - سوف لن تتوقف السينما الجيدة عن الدنو منه بعد ذلك - أي عبر تصوير الانسان داخل الوحش... في مقابل تصوير الوحش داخل الانسان. فالحال ان من يتعاطف معه الجمهور في «خطيبة فرانكنشتاين» انما هو الوحش نفسه، وقد اضحى ضحية معلنة للإنسان (العالم الذي يستخدم علمه لزرع الشر في هذا العالم). وعبر فرض ذلك التعاطف وتحويله الى قاعدة سينمائية تمكّن كاتب هذا الفيلم ومخرجه، من ان يقلبا معادلات كثيرة. وكان مهماً ان تحدث تلك القلبة في ذلك الحين: أي حين كانت اميركا كلها واقعة تحت وطأة الكارثة الاقتصادية في الثلاثينات. الكارثة التي كشفت دروباً للرعب والخوف ناجمة عن تصرفات البشر وليست آتية من خارج ارادتهم. اذاً، في فيلم اوصل الجمهور العريض الى التعاطف مع الوحش المرعب، والى الوقوف صفّاً واضحاً ضد العالم السادي، وخصوصاً ضد صديقه الموحي اليه بالتصرفات الشريرة: الدكتور بريتوريوس، بدا واضحاً ان السينما تسلك دروباً جديدة، حتى وإن كانت امضت في تقلبها، بحيث ميّزت لاحقاً الدكتور بريتوريوس الشرير، وبين الدكتور فرانكنشتاين الذي يبدو لنا، هو الآخر، ضحية قد غرّر بها. ومن هنا كان الجمهور راضياً تماماً حين تدخّل الوحش في نهاية الفيلم ليدمر العالم الشرير، وينقذ العالم الآخر، الغبي اصلاً، والذي لم يرتكب الشر إلا تحت وطأة رغبات زميله. اما جيمس وال، الذي حقق قبل سنوات في هوليوود فيلماً مميزاً عن حياته وسينماه وموته الغامض، فإنه اشتهر في زمنه بالكثير من افلام الرعب وأفلام الخرافة العلمية التي كان واحداً من سادتها، ومن ابرزها اضافة الى ما ذكرنا «الرجل غير المرئي» (1933). [email protected]