نشأت في روسيا القيصرية، نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، حركة «بلترة» جذرية وواسعة، أنتجتها عوامل التاريخ، ولا علاقة لفعل النخب الثورية آنذاك بتوليدها، ثم شكلت هذه الحركة من تلقاء نفسها ما عرف حينها باسم «السوفياتات». فوجئ الشيوعيون الروس وقتها بقوة وعظمة الحراك الشعبي، مما جعل لينين يقف موقفاً حاسماً كان مضمونه: علينا «بلشفة السوفياتات»! وفعلاً تم ذلك. فقد سمح التاريخ «لإنتهازية» لينين أن يبلشف السوفياتات وصولاً إلى إقامة السلطة السوفياتية، التي قبرها التاريخ أيضاً في ما بعد. هذه الواقعة تتشابه منهجياً مع ما يجري في سورية بداية القرن الحادي والعشرين، للأسباب التالية: 1- إن المعارضة السورية بكل أطيافها القومية واليسارية وحتى الإسلامية، هي بنت المناخ التنظيمي والأيديولوجي المغلق الذي أشاعته وعمقته الستالينية، وريثة اللينينية، على مستوى العالم وفي شكل خاص العالم المتأخر. 2- لأن انبثاق ما عرف ب «التنسيقيات» الشبابية في سورية، يتشابه مع انبثاق «السوفياتات» في روسيا، تم بفعل عوامل التاريخ ولا علاقة لأيديولوجيات وإرادات النخب المعارضة بتشكله. 3- لأن نخب المعارضة الراهنة في سورية تفكر بالمنهج نفسه الذي فكر فيه لينين، وأعني خيار «بلشفة» التنسيقيات، فمنهم من يريد أن «يبلشفها» قومياً، ومنهم من يريد أن «يبلشفها» يسارياً أو إسلامياً. لكن الذي يقفز فوقه المعارضون السوريون هو: أن التاريخ الذي أفسح في المجال «لإنتهازية» لينين أن تتحقق، لم يعد يفسَح به راهناً للمعارضة السورية التقليدية، وذلك: لأن حركة التنسيقيات ومنظوراتها، وفق ما يصرح به ممثلوها على الإعلام، تتعارض مع جميع المنظومات الأيديولوجية المغلقة، وعلى الأخص الأصوليتين القومية واليسارية، بغض النظر عن موقع هاتين الأصوليتين سواء في السلطة أو المعارضة. التنسيقيات، بوصفها تعبيراً عن حركة تغيير أفرزها الواقع بكل ذواته الفاعلة وتناقضاته وممكناته، تمسك بقضايا حياتية محددة ذات صلة بحياة البشر الفعلية، ولا تمتح من أيديولوجيات ماضوية محلقة فوق الزمان والمكان. كذلك من خلال الشعارات التي سمعناها، هي مفتوحة على فضاء الدولة الوطنية ومفاهيمها المحيطية، ونابذة لصيغة «الدولة» - الحصرية. وهي بذلك تؤسس لوعي أكثر ارتباطاً بالمستقبل والواقع من المعارضات التقليدية، ومرتبطة بقوى اقتصادية واجتماعية تتحرك فعلياً على الأرض، وذاهبة بقوة، نحو فرش الأرضيات المناسبة لنشوء أحزاب من نمط سياسي، انتخابي، سلمي، علني، ديموقراطي، ويعيد السياسة إلى المجتمع، بوصفها فاعلية مجتمعية وليست فاعلية حزبية، ويمثل انقلاباً على بنية الحزب الأيديولوجي الذي حكم عليه التاريخ أن يتقهقر إلى شرنقات تتطابق مع منسوب وعيه. إن المنظومة الستالينية وأخواتها، التي رزحت مجتمعاتنا تحت شعاراتها وراياتها وفسادها في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، نزعت الحالة السياسية والمدنية التي أحدثتها صدمة الحداثة بداية القرن العشرين. اليوم تعيد صدمة «فايسبوك» السياسية، التي تم نزعها بفعل الإستبداد، إلى مجتمعاتنا من أوسع أبوابها. فمفهوم «الطليعة الثورية» ذات الإرادة السيزيفية القادرة على «البلشفة»، وعلى رفع وعي الجماهير «التريديونيوني» (النقابي) إلى وعي ثوري أصبح يثير القرف، ويذكر بماضٍ دموي رهيب. * كاتب سوري