منذ قيام دول الاستقلال في العالم العربي منتصف خمسينات القرن الماضي، وصولاً إلى الزمن الراهن، هيمنت على الفكر السياسي والثقافة العربيين أيديولوجيات متفاوتة في عنف أفكارها والدعوة إلى استخدامه في حل الخلافات بين مكوناتها المجتمعية. سادت ثلاثة تيارات فكرية سياسية خلال هذه المرحلة: التيارات القومية العربية، التيارات الاشتراكية، ثم التيارات الأصولية. المشترك في هذه التيارات هو غياب الفكر الديموقراطي عن أيديولوجيتها، والدعوة إلى استخدام العنف في الوصول إلى السلطة، واعتبار نفسها وحدها تملك الحقيقة. شكلت الحركة القومية العربية بقيادة الناصرية والبعث طليعة القوى التي أمسكت بالسلطة بين الخمسينات والستينات من القرن الماضي، واستمر حكم البعث حتى الزمن الراهن في سورية قبل أن يسقط النظام في العراق عام 2003 تحت وطأة الاحتلال الأميركي. ليس من شك في أن العنف كان الوسيلة الوحيدة التي لجأ إليها النظام القومي العربي في معالجة المعضلات المجتمعية. بنت هذه الحركة القومية أنظمة أمنية سلطت فيها أجهزة القمع على المعارضة التي نشأت في وجهها، فأودعتها السجون وشتتتها في المنافي وذهبت بها إلى القبور، تحت شعار الدفاع عن الشعب وتحرير الأرض. لم يكن العنف العاري الذي مورس من خلال هذه الأنظمة مجرد نزوة سلطوية أو ميول ديكتاتورية. كان هذا العنف ينبع من تراث أيديولوجي أعطى العنف كل مشروعيته وتبريراته. اعتبرت الأيديولوجيا القومية العربية أنها تمثل شعوباً وأعراقاً عربية ذات خصوصية تختلف عن سائر الأعراق التي تتكون منها المجتمعات العربية، وهي أعراق متعددة ومتنوعة وذات تاريخ وتراث، بعضها يعود إلى ما قبل التبلور القومي العربي. هذه الحركة القومية أظهرت على امتداد تاريخها أنها تحمل فكراً إقصائياً واستئصالياً يبرر لها احتكار السلطة وحرمان المكونات المجتمعية المختلفة من حقوقها المشروعة. وفي مجتمعات عربية لا تسود فيها مؤسسات تسمح بتجييش الشعب ضد النظام، كان على السلطة تصليت سيف العنف من أجل البقاء في السلطة إلى ما لا نهاية. لعل التاريخ العربي منذ الخمسينات إلى الانتفاصات العربية، وآخرها ما يجري في سورية خير شاهد على هذا الحكم. التيار الآخر الذي ساد في المنطقة العربية، بين النخب في شكل أساسي هو التيار المستند إلى الفكر الاشتراكي وعلى الأخص منه الفكر الماركسي. صحيح أن هذا التيار لم يتسنَّ له استلام السلطة على غرار الحركة القومية العربية، إلا أنه حيث أمكنه المشاركة، في اليمن الجنوبي أو في العراق على عهد عبدالكريم قاسم، فإنه لم يكن أقل عنفاً تجاه القوى الأخرى عما كان عليه التيار القومي العربي. هنا أيضاً كان لهذا العنف أساسه الأيديولوجي الصريح المتمثل في مقولات ماركسية ترى في العنف قاطرة التاريخ، وأن النضال الطبقي هو الوسيلة للقضاء على الطبقة البرجوازية وإقامة ديكتاتورية البروليتاريا، إضافة إلى اقتناع بكون الماركسية نظرية ومنهجاً وحدها القادرة على تقديم التحليل الصحيح لكل شيء. نحن هنا أيضاً أمام فكر إقصائي واستئصالي يعطي للعنف كل مشروعيته ويضعه في برنامجه السياسي. أما التيار الآخر الصاعد في هذه المرحلة بعد هزيمة التيارين القومي والاشتراكي فهو التيارات الأصولية. نحن هنا أمام ثقافة جوهرها، فكراً وممارسة، الدعوة إلى العنف واستخدامه وممارسته في كل الأشكال الممكنة. إن ثقافة العنف السائدة التي بثتها التيارات الأصولية تقوم على مقولة إن هذه التيارات تريد فرض نظام مغلق في كل قطر عربي، واستخدام العنف وسيلة لذلك. إن ثقافة رفض الآخر وإقصائه واستئصاله تجد تجلياتها بوضوح ساطع في التيارات الأصولية أكثر بكثير مما هي عليه التيارات الأخرى. نظرية «الاصطفائية» تستند هذه التيارات إلى نظرية «الاصطفائية» التي منحتها موقعاً متميزاً على سائر البشر، ما جعلها ترى في مشروعها السياسي ترجمة للقوة الغيبية. تبدو خطورة هذه الثقافة من كونها تلغي أي مخالف سواء انتسب إلى الإسلام أم لم ينتسب، بل وتدعو إلى قتاله. وما يزيد من الأخطار أن هذه التيارات تستسهل رمي المخالف لها بالكفر والارتداد والهرطقة، ما يبرر القتل لهؤلاء. لعل ما تشهده مصر الآن من رمي «الإخوان المسلمين» لخصومهم بتهم الكفر والخيانة واعتبار أن كل نقد ل «الإخوان» هو نقد وهجوم على الإسلام، ما يؤشر إلى مرحلة العنف المقبل الذي ستسخدمه هذه التيارات عندما تتمكن من الحكم في مصر. نحن هنا أمام أخطر أنواع العنف، لأنه «عنف مقدس» بالنسبة إلى ممارسيه أو الداعين إليه. كما أن ما شهدناه على امتداد العقود السابقة من ممارسة التيارات الأصولية وعنفها، يؤشر إلى أخطار هيمنة هذه الفئات على المجتمعات العربية في المرحلة المقبلة. خلال العامين الماضيين اندلعت انتفاضات في العالم العربي تحت شعار المطالبة بالديموقراطية. لم تنج واحدة منها من استخدام الأنظمة العنفَ في البداية، ومن عنف مقابل. سقطت هذه الانتفاضات ودعوات الديموقراطية على بنى مجتمعية عربية عمادها هيمنة البنى العصبية والطائفية والاثنية، فانفجرت حروباً أهلية لا تزال تتنقل بين بلد وآخر، وتزرع العنف وثقافته. في منطقة عربية، تعجز مجتمعاتها عن حل خلافاتها عبر التسويات السلمية، وتتراجع فيها ثقافة الديموقراطية بعيداً، ستظل ثقافة العنف تتصدر الفكر والممارسة إلى أمد غير منظور.