مرة جديدة يعاكسهم القدر ويمنعهم من جني لقمة عيشهم، فبعدما هجرّتهم الحروب والأزمات الأمنية والاقتصادية من بلدهم لبنان، يعودون إليه وفي حقائبهم بعض الأغراض التي استطاعوا النجاة بها فيما يتركون ما عملوا سنوات من أجله في البلاد التي هاجروا إليها على أمل أن تعوّض لهم الحياة يوماً ما خسروه. هذه هي حال اللبنانيين العائدين الى لبنان من ساحل العاج، ليبيا، مصر، اليمن، سورية وحتّى البحرين... إلى الآن دفعوا الثمن مرتين: حين اضطروا إلى ترك وطنهم وحين عادوا إليه قسراً. والأزمة لا ترتبط بمدى رغبة اللبنانيين المهاجرين في العودة الى بلدهم، إنما بقدرة لبنان على استيعابهم وتوفير الحماية الاجتماعية والاقتصادية والأمنية لهم بعد الفترة الصعبة التي مرّوا بها في المهجر. وإذا عدنا الى أرقام البعثات الديبلوماسية اللبنانية، فقد كان هناك قبل الأزمات والثورات الإقليمية حوالى 70 ألف لبنانيّ في مصر و750 في ليبيا وحوالى الخمسة آلاف في البحرين. أمّا في ساحل العاج، فيتجاوز عدد اللبنانيين 75 ألف نسمة، وكذلك في سورية حيث يُقدّر العدد ب50 ألف لبنانيّ. وهذه الأرقام ترمز الى حجم المشكلة التي يعاني منها لبنان اليوم حيث فرض الواقع نفسه على الكثير من العائلات المقيمة خارج وطنها لتعود على رغم قلقها من مصيرها الغامض بعدما خسرت الكثير بسبب أعمال الشغب والفوضى التي حصلت في أكثر من دولة. الشعور بالخسارة يلازم العائلات العائدة الى لبنان، ليس فقط من الناحية المادية إنّما المعنوية أيضاً. ويشبّه أنطوان، الذي كان في ساحل العاج خلال فترة الاضطرابات، أزمة اللبنانيين بما حدث خلال غزو إسرائيل للبنان إذ كانت الفوضى في كلّ زاوية والدمار أيضاً. ويؤكد أنطوان أنّ هذه الأزمة مثل غيرها من الأزمات الإقليمية أثّرت في نفسية اللبنانيين المقيمين خارجاً، إذ شعروا أنّ لا حماية لهم من قبل السلطات اللبنانية وأنّ أي حادثة يمكن أن تقع هي مخاطرة بحياتهم. أمّا حول العودة الى لبنان فالهمّ المعيشيّ هو الشاغل الأول لأنطوان، وهو أب لأربعة أولاد، خصوصاً أنّه كان يعمل في تجارة الكاكاو في ساحل العاج وبالتالي فقد خسر استثماره. وما زال أنطوان يبحث عن وظيفة تناسب كفاءاته أو شريك يدعمه في التأسيس لعمل جديد، إلا أنّ التشاؤم ما زال يسيطر على عائلة أنطوان كلّها التي تعتبر أنّ «ساحل العاج كانت كلّ شيء بالنسبة لها»، وهي عادت الى بلدها من دون أي ضمانة لمستقبلها. عائلة مصطفى التي عايشت مراحل الثورة في مصر لها نظرة أخرى حول العودة القسرية، لكنّها تشترك مع أسرة أنطوان بحزنها لوضع لبنان غير القادر على تأمين أدنى شروط العيش لهم بعد عودتهم. فمصطفى ما زال يتمسّك بأمل أن تعود مصر أقوى من قبل ويرجع إليها مع عائلته للعمل أو الزيارة، وهو يؤيد التحرّكات التي قام بها الشباب المعارضون للنظام لتحقيق مطالبهم. غير أنّ رأي مصطفى يختلف حول الحال في لبنان، ويقول: «نسبة البطالة تتعدّى 16 في المئة بحسب المسؤولين الرسميين، وهناك شباب في مقتبل العمر يقضون وقتهم في المقاهي ولا يجدون وظيفة تناسب كفاءاتهم، فكيف الحال بنا نحن من تجاوز الأربعين من العمر وقد أفنينا العمر في المهجر؟». وتأثير العودة القسرية للعائلات اللبنانية لم تطاول المهاجرين فقط إنما أهلهم في لبنان أيضاً، إذ تراجعت تحويلات المغتربين التي كانت تعتمد عليها العديد من الأسر لتأمين السيولة المالية. ونتائج الأزمات الإقليمية خلال الأشهر القليلة الماضية كانت أكثر وضوحاً من تأثيرات الأزمة المالية العالمية عام 2008، إذ خسر كثيرون من اللبنانيين أملاكهم وودائعهم بسبب الاضطرابات الأمنية والسياسية. وتشير منى التي ما زال إبنها يعيش في البحرين ويعمل لحسابه، الى أنّ المبالغ التي كان يرسلها الى عائلته انخفضت الى الثلث، كما اضطر الى وقف عملية شراء شقّة في بيروت بانتظار جلاء الأوضاع في مملكة البحرين. وتكثر أعداد اللبنانيين الذين أثّرت الثورات والأزمات الأمنية والسياسية في حياتهم اليومية وقدرتهم على تأمين الدعم الماليّ لعائلاتهم في لبنان. أزمة انتماء استيعاب العائلات المهاجرة العائدة إلى وطنها تحدٍّ تواجهه كثرة من الدول، فذلك يتطّلب خطّة وطنية إنقاذية لكلّ أولئك المهاجرين الذين أعادتهم الاضطرابات إلى بلادهم واصطدموا بواقع اقتصاديّ خطر يهدّدهم بالبطالة. وتقسم الباحثة الاجتماعية كارولين حوراني الأزمة التي تواجه العائلات العائدة الى شقيّن نفسيّ واقتصاديّ، وتعتبر أنّ هناك أزمة انتماء أولاً لدى كلّ الأفراد الذين أجبروا لترك البلد الذي اختاروا العيش فيه، فهم يحتاجون «للاحتضان من قبل الدولة ليشعروا بالأمان وأنّهم يمكن أن يبقوا في وطنهم من دون أي آثار سلبية ترتدّ عليهم». وتلفت حوراني الى «أنّ أزمة الانتماء للبنان والشعور بأنّه الوطن الحاضن يعاني منها كثيرون من اللبنانيين، إلا أنّ العائدين حديثاً تعرّضوا لأزمة نفسية جراء الاضطرابات وبالتالي يمكن أن يشعروا أكثر بالهوّة بينهم وبين هويتهم الوطنية». أمّا حول الشقّ الاقتصاديّ، فتعتبر حوراني أنّ القلق يساور العائلات العائدة الى لبنان من الفشل في تأمين لقمة العيش والاضطرار إلى التقشف فيما نمط الحياة في دول المهجر يمكن أن يكون أفضل من الناحية المادية، والمشكلة الأكبر بالنسبة لتلك العائلات عدم وجود أي خطّة وطنية تشملهم وتساعدهم في إيجاد مسارهم في موطنهم مجدداً. كلّما وقعت أزمة سياسية أو اقتصادية في أيٍّ من الدول المجاورة، يتأثر لبنان في شكل مباشر أو غير مباشر، إلا أنّ هذه المرة الأزمة أعمق لأنّها تطاول آلاف العائلات اللبنانية. فهاجس الإجلاء أو الترحيل بات ملازماً للبنانيين أينما حلّوا، ولوحظ ذلك تحديداً خلال الجدل الذي فُتح مؤخراً حول ترحيل السويد لعدد منهم لاعتبارها أنّ الحرب اللبنانية قد انتهت ولم يعد يمكن اعتبار مواطني هذه الدولة لاجئين. فعلى رغم أنّ سفير لبنان لدى السويد نصرت الأسعد نفى وجود مثل هذا الترحيل، لم يكن أهالي المهاجرين والمسافرين مرتاحين لفتح مثل هذه القضية منذ البداية على اعتبار أنّ قدرة سوق العمل في لبنان على استيعاب وافدين جدد سبق وتخطّت كلّ الخطوط الحمر.