حين كتب الشاعر نزار قباني قصيدته «متى يعلنون وفاة العرب؟» اختلف «المتوفون» حولها، فمن متقبل ومقتنع إلى مستنكر وغير مقتنع، ومهما كان الاستقبال العربي حيالها، فقد كانت القصيدة بمثابة رد فعل نفسي شعوري حيال الحالة العربية التي كانت سائدة لدى قباني في آخر سنوات القرن العشرين، والحال أن المشهد كله مصاب ب «لسعة ثورية»، تحولت إلى «دُمّل» انفجر ولا يزال ينزف، وإلى اليوم لا نعرف كيف سيقفل الجرح، وهل سيغلقونه على طهارة أو كما يأتي فليأتِ!!! تذكرت نزار قباني الذي عاش في لندن في أواخر أيامه على الأرض وأنا أقطع شوارع المدينة نفسها، حيث الزيارة الخاطفة بدعوة من مكتب الخارجية البريطانية لوفد صحافي من الخليج، وسأتحدث عن انطباعي الذاتي عن الرحلة في مقالات لاحقة، أما مقالي هذا فقد اخترت له عنواناً «قبانياً» يقول: «العرب مروا من هنا»، فبعد النكبات التي عاصرتها أوطاننا، ولا تزال تصرخ من ويلاتها، توقعت لوهلة أن أرى بعض التغيير في سلوكيات الاستهلاك ومتع السياحة، لكن البؤس المعرفي والوعي المتدني لما يجري لوطننا العربي لم يصل إلى «ربعنا» بعد، ولا يزالون على حالهم في التبضع والشراء وافتراش المقاهي لمراقبة الخلق، فإن دخلت المتجر الكبير المعروف بطوابقه فستجدهم متكدسين في أجنحة العطورات والملابس بالشنط والأحذية وطبعاً الأكل، فماذا عن أقسام الكتب ومستلزمات الكتابة؟ ليسوا في حاجة إليها فلا أحد هناك، ماذا عن أقسام التحف والكريستالات؟ ليست من ضمن هواياتهم، فلا أحد هناك، فماذا عن أقسام الأثاث والتمتع بآخر ابتكاراته، تظل سجادة فوقها أريكة وهذه مقدور عليها في ديرتنا ونصف ساعة تنهيها، وبالتالي فلا أحد هناك إلا واحداً جره حظه العاثر إلى بقعة لا ينتمي إليها فتلفت فلم يفهم فسأل في طريقه عن الحمّام، فإذا تهت وناشدت باب الخروج وضعت في الزحام ومررت بالخطأ بقسم المجوهرات والساعات فالكل هناك، نعم العرب مروا من هناك. فماذا عن حديقة الهايد بارك وفرصة استنشاق رائحة الأرض المبللة بزخات المطر الخفيفة بمنظر السجادة الخضراء الربانية تعيد معها تجديد دمائك بتواصلك مع الكتاب المختلطة كلماته بالأرض وذبذباتها. بصراحة لم أجد سوى «بشكات» عبايات سوداء و «ترامس» الشاي والقهوة وكأننا لم نغادر ونقطع المسافات، أما الرجال فيسرحون في ملكوت الله، ولا علم لي أين منطق التجديد في هذا السلوك وهذا التفكك الأسري؟ ولم التكلف من الأساس؟ والإشكالية الأبدية لمسلمي الخمسة فروض بخمس مرات الوضوء في نظافة المكان الذي يغزونه والتي تكاد تختفي ملامحه الجميلة تحت وزن إهمالنا في رمي النفايات وترك المخلفات، فأين ذهبت مع الريح «النظافة من الإيمان»؟ قبيحة هذه الريح خطفت العبارة ونسيت أن تعيدها. فماذا عن الأماكن التاريخية؟ عن المسرحيات المثقفة بموسيقاها وتقنياتها؟ عن الأماكن التي تخاطب العقل والإبداع؟ تذهب هناك فلا تجد عرباً ومن تشتبه في عروبته فإذا تحدث فهو إما باكستاني أو هندي، فماذا عن الأماكن الرياضية كزيارة الملاعب مثلاً، أبشركم العرب مروا من هناك، ولكن، إن وجدت أحداً تأخر عن اللحاق بركب الزيارة، أو لم يلتزم بالتعليمات، فستعرفه من ملامحه العربية حتى إذا تحدث هذه المرة تأكدت من حدسك، فهل بعد هذه الجولة السريعة وإن كانت تنقصها سهرات الليل وما أدراك ما الليل، هل بعدها ترى وجوهاً مبتسمة لربها راضية؟ أبداً، إلا وجوهاً عابسة ونفوساً تتنفس بصعوبة، وعائلات لا تحسن الحديث مع أفرادها أو قل لا تطيقه، ومع كل هذا لا تُناقش هذه العادات المقيتة، بل تستمر وكأنها فُرضت علينا، فهل من وقفة؟ أبداً، وموعدنا العام المقبل بنفس النمط ونفس «البروفة» لمسرحية عربية ركيكة الحوار والسيناريو. يقول حسن حنفي: «أنا في النهاية ابن 1967، وكل المشاريع العربية المعاصرة إنما أتت بعد 1967، فهو جرح لا يزال في جيلي، وقد تصورنا أننا نجحنا في حركات التحرر الوطني، ولكن يبدو أن هذا كان نجاحاً مؤقتاً، وأن الأزمة أعمق من ذلك».. نعم هي دائماً أعمق! [email protected]