تستعد طيور اللقلق البيض لرحلتها الصيفية إلى الجنوب في منطقة الساحل الإفريقي والسودان. في رحلة شاقة، تعبر الطيور حدوداً وتربط بلداناً ونظماً بيئية مختلفة. تشمل رحلتها أوروبا وتركيا وسورية ولبنان وفلسطين والأردن، ثم سيناء وخليج السويسوجنوب مصر. تحطّ في السودان حيث تنتظرها وجبة دسمة من الجراد تعوض حرمان الرحلة وشقاءها. يفقّس هذا الجراد بالملايين، لكن اللقالق البيض تتلقفه وتنهي خطره. تعرّفنا هذه الحكاية بدور الطيور المهاجرة في توازن البيئية وخدمة الإنسان والحياة. ماذا لو لم تصل اللقالق إلى نهاية رحلتها؟ ماذا لو تغيّرت ملامح أمكنة الهبوط؟ وأفاد تقرير ل «برنامج الأممالمتحدة للبيئة» أخيراً، بأن قرابة خمسين بليون طائر تهاجر سنوياً، ما يشكل قرابة خُمس الطيور التي يقدر أنها تتوزّع على عشرة آلاف نوع. وتتهدد هذه الطيور كثير من المخاطر، فلا يستكمل بعضها الرحلة، بل إن مجموعات منها تختفي كلياً. ضرب التقرير مثلاً ما حدث في منطقة البحر الأصفر الذي يقع بين الصين والكوريتين، إذ تدهورت موائل الطيور المهاجرة وأماكن تكاثرها نتيجة لخطط تنموية في المنطقة. وأكّد التقرير أهمية تقصي المعلومات عن المواقع المهمة للطيور المهاجرة، حتى يمكن حمايتها. في هذا الإطار، أوضح ماركو باربييري، السكرتير التنفيذي ل «اتفاقية الطيور المائية المهاجرة الإفريقية اليورو- آسيوية»، أن المعلومات عن هجرات الطيور زادت كثيراً في العقود الأخيرة، خصوصاً تلك التي يهتم بها مشروع «أجنحة فوق الأراضي الرطبة»، مُعتبراً أن التحدي مستقبلاً يكمن في تكامل هذه المعلومات مع خطط التنمية. تحدّث التقرير عن الطيور المهاجرة كمؤشر عن البيئة. إذ يستدل من رحلاتها الطويلة وحال موائلها ومستعمراتها الطبيعية، على مدى صحة البيئة أو تدهورها. وبيّن الدكتور نيك ديفيدسون نائب السكرتير العام ل «اتفاقية رامسار للأراضي الرطبة» أن الطيور المهاجرة تلقّب حاضراً بالمجسّ العالمي الحسّاس للتغير البيئي، إذ تتحرك عبر نظم متعددة، ما يعني أن حالها وصحتها تعطيان إشارات واضحة عن مدى التغير في البيئة. وأكّد ديفيدسون أن الفشل في الحدّ من التناقص في الأنواع الحيّة، وضمنها الطيور المهاجرة، يفرض مضاعفة الجهود دولياً لحماية ظاهرة الحياة على الأرض. في السياق عينه، التقت «الحياة» الدكتور شريف بهاء الدين، وهو خبير في الطيور المهاجرة، له مؤلّفات عنها مثل «المواقع المهمة للطيور المهاجرة في مصر» و «كيف تُراقب الطيور؟»، إضافة لكونه من مؤسسي «الجمعية المصرية لحماية الطبيعة» و «جمعية محبي المحميات الطبيعية». وأوضح بهاء الدين إن التزام الطيور مسارات معينة في هجرتها أمر يصعب تفسيره بسهولة، مُشيراً إلى اختلاف مسارات الطيور بحسب طريقة الطيران وإستراتيجية الهجرة. وقال: «ترحل الطيور الصغيرة التي قد يقل وزن كل منها عم 15 غراماً، من جنوب أوروبا إلى الصحراء الكبرى وصولاً إلى خط الساحل الإفريقي والسودان، حيث الأشجار والغابات. وتساوي هذه الرحلة ما يزيد على ألفي كيلومتر، تقطعها الطيور في يومين، من دون أكل ولا شرب، بل تُحلّق على ارتفاعات عالية جداً، ونطاق مساراتها واسع. أما الطيور الكبيرة، مثل الحدأة واللقلق الأبيض، فمساراتها أكثر تحديداً وظروفها أصعب. إنها أثقل وزناً وأشد بطأً، وتطير على علو منخفض. ولا تحلّق فوق البحر. وتتحرك من أوروبا في مجموعات كبيرة إلى مناطق نسميها «عنق الزجاجة»، وهي المضائق البحرية، حيث تقل مساحة المياه، وبالتالي تستطيع الطيور عبورها لتصل إلى الجنوب. تعطي مضائق جبل طارق وباب المندب والبوسفور أمثلة عن هذه المضائق. وروى بهاء الدين مشاهداته عن أسراب طيور اللقلق البيض المهاجرة أثناء محاولتها العبور من محمية رأس محمد (في مصر) إلى خليج السويس، مشيراً إلى أنها ترسل «كتيبة استكشاف» تنجز محاولة العبور الأولى، ثم يتبعها الآخرون، وفور الانتهاء من العبور، تحطّ هذه الطيور على الشاطئ للراحة. وتناول بعض الانتقادات التي توجهها منظمات حماية الطيور المهاجرة لمشاريع توليد طاقة الرياح وتوربيناتها الضخمة، وكذلك انتقاداتها لبناء المطارات في المناطق النائية والصحراوية مثل خليج السويس، الذي يحتوى محطّة ضخمة لتوليد طاقة الرياح. وأشار بهاء الدين إلى إن هذه مشكلات حديثة العهد بالنسبة الى هجرات الطيور، كما تتسبب في فقدان أعداد كبيرة منها، خصوصاً الطيور الكبيرة. وقال إنه أنجز دراسات عن الطيور المهاجرة في منطقة مشروع توليد طاقة الرياح في خليج السويس. وشدّد على أهمية استكمال هذه الدراسات، لافتاً إلى منطقة جبل الزيت التي يزمع تخصيصها لتوليد طاقة الرياح أيضاً، على رغم كونها منطقة أساسية للطيور المهاجرة. وتحدّث بهاء الدين عن منطقة الجمشة على البحر الأحمر، وهي محطة للقلق الأبيض، لكنها بيعت لأحد المستثمرين لتصبح منطقة سياحية. والمعلوم أن هذه المنطقة كانت محل تحقيق بعد ثورة 25 كانون الثاني (يناير) بسبب الفساد المالي الذي صاحب بيع هذه الأراضي. وأُجريَت دراسات لتقويم الأثر البيئي للمنطقة، لكن موضوع الطيور المهاجرة لم يحظ بالأهمية الكافية. المطارات والمسارات والطيور في سياق متّصل، تناول بهاء الدين مسألة بناء مطارات في مناطق صحراوية نائية، مُشيراً إلى وجود جانبين للقضية: «أولاً، بناء مطارات من دون دراسات بيئية قد يضرّ بالتنوع البيولوجي ويهدد مسارات الطيور المهاجرة وموائلها. في المقابل، قد تُهدِّد أسراب الطيور حركة الطائرات وتتسبب في حوادث مأسوية. وفي إحدى الدول العربية، أدّت دراسة عن هجرة الطيور إلى تغيير موقع مزمع لإنشاء مطار». واستطراداً، تحدّث عن كيفية استغلال الدول العربية لوجود هذه الأعداد الهائلة من الطيور المهاجرة في مجال السياحة البيئية، خصوصاً أن مراقبة الطيور تحظى بجمهور واسع. وقال: «لا يزال هذا الأمر بُعداً غائباً عنا. ومن المطلوب أن يدرج في السياحة البيئية، ولكن بشروط، منها وجود وعي جماهيري بالموضوع، إضافة إلى وضع ضوابط لتنظيمه يتولى صوغها اختصاصيون وخبراء في البيئة والطيور». ولذا، لفت بهاء الدين النظر إلى قضية الخبراء، معرباً عن أسفه لقلة عدد الخبراء العرب في هذا المجال، مقارنة بكثير من الدول. ورأى ان الوصف نفسه ينطبق على الوعي الشعبي بأهمية الطيور وهجراتها. وشدّد على أهمية إجراء دراسات عن الطيور المهاجرة، في الجامعات ومراكز البحوث، وتشجيع إنشاء جمعيات أهلية تهتم بهذا الموضوع، إضافة إلى تشجيع الأجيال الجديدة على البحث والمعرفة في هذه المسائل بالاستناد إلى شخصيات مرجعية تملك المعرفة الأكاديمية والخبرة العملية. ولاحظ أيضاً أن الطيور المهاجرة إلى مناطق رطبة في مصر، مثل بحيرة البردويل (في الشمال)، تتناقص سنوياً بشكل ملحوظ. وأعرب عن قناعته بإن الطيور المائية كالبط والبلشون، تأتي في الشتاء منجذبة إلى الدفء في البحيرات الشمالية في مصر. وقال: «تتعرض هذه الطيور لمخاطر شديدة نتيجة تجفيف مساحات واسعة من البحيرات، وإنشاء مزارع الأسماك وإلقاء مخلفات الصرف فيها أيضاً. لقد تقلّصت مساحة الأراضي الرطبة إلى قرابة النصف، ما أدى إلى إعراض الطيور المهاجرة عنها. وغيّرت بعض الأسراب مسارها لتتجه صوب بحيرة ناصر (خلف السدّ العالي) في الجنوب، إضافة إلى هجرة طيور السُمّان إلى سيناء والساحل الشمالي التي اعتاد أهالي سيناء على وصفها بأنها تُشبه سحابة سوداء تغطي السماء من غزارة أعدادها. وحاضراً، تناقصت أعداد هذه الطيور بشكل كبير نتيجة للصيد الجائر. لماذا لا نطبّق أساليب الصيد المستدام، كي نحمي هذه الثروة الطائرة؟ هناك مشاريع تتبناها حاضراً «الجمعية المصرية لحماية الطبيعة»، إضافة لكونها ممثّلة ل «الجمعية الدولية لحماية الطيور» في مصر. وأخيراً، أشار بهاء الدين إلى مشروع تنهض الجمعية المصرية به، بالتعاون مع «الجمعية الفرنسية لحماية الطيور»، مُبيّناً أن المشروع يركّز على طائر أبي منجل. المعروف أن هذا الطائر قدّسه الفراعنة، ولكنه اختفى من مصر منذ ثمانينات القرن التاسع عشر. وحينها، كانت أوروبا مولعة بريش هذا الطائر، لاستخدامه في تزيين قبعات السيدات. وجرى تصدير كثيف لهذا النوع من الريش على حساب بقاء طائر أبو منجل. وجرى اصطياد آخر طير من هذا النوع عند بحيرة المنزلة. وأما في فرنسا، فقد تسبّب أبو منجل في مشكلة كبيرة لأنه أصبح طفيلياً يعتدي على الطيور الأخرى ويتغذى على القمامة حول المطاعم! فهل تغيّرت عادات هذا الطير مع تبدّل الموطن والبيئة؟ كيف وصل إلى فرنسا؟ هل من فوائد من إعادته إلى مصر؟ وكيف؟ هناك من يوصي بضرورة وجود إستراتيجية عربية للطيور المهاجرة، وبتعاون وتنسيق عربيين لوضع خرائط استرشادية حول مسارات الطيور المهاجرة واتجاهاتها وأعدادها ومحطاتها وموائلها، وعلاقة هذه الأمور مع المناخ والطقس، إضافة إلى دمج هذا البعد في خطط التنمية. وقبل فترة وجيزة، حلّ «اليوم العالمي للطيور المهاجرة» مُذكراً بمأساة هذه الطيور، بأثر من أنانية الإنسان. ألم يكفه ما يضعه من عراقيل أمام حرية الحركة والتنقل أمام البشر، لينتقل إلى تهديد طرق هجرة الطيور؟ وهل تبقى الطيور المهاجرة تشكو من أن لا مكان للهبوط؟