محمد سلماوي أحد أهم رموز الثقافة والصحافة في مصر٬ ولد في أسرة ميسورة الحال في نهاية العصر الملكي، وعاش صباه وشبابه في العهد الناصري، ثم عايش المرحلة الساداتية وتفاعل مع تقلباتها من خلال الكتابة الصحافية والنشاط السياسي الذي أوصله إلى السجن في 1977. عن مراحل حياته وكواليس عالم الصحافة والسياسة والأدب٬ جاءت مذكراته «يوماً أو بعض يوم» (الكرمة)٬ وفيها كشف سلماوي عن كثير من التفاصيل غير المعروفة لبعض أهم الحوادث السياسية والاجتماعية والثقافية التي عايشها. ويأتي ذلك الكتاب، بعد كتب كثيرة أصدرها سلماوي، قاصاً وروائياً وكاتباً مسرحياً. هنا حوار معه: لماذا تبدو كتابة السيرة الذاتية في عالمنا العربي، باستثناء «الخبز الحافي» لمحمد شكري٬ مفتعلة؟ - آفة السير الذاتية العربية هي الثنائية الموجودة في الشخصية العربية٬ التي تقبل أن تفعل وتقول أي شيء طالما أن هذا ليس معروفاً أو منشوراً، لأن الحفاظ على المظاهر هو الأهم، وخلف هذا يمكن أن نفعل ما نشاء، والسير الشخصية العربية عادة ما تعكس ذلك فتجيء محافظة على المظهر لكنها غير صادقة، فلا نكاد نجد عندنا مثلاً ما يشبه اعترافات جان جاك روسو٬ أو اعترافات سانت أوجستين. وإن كانت هناك استثناءات نتوقف عندها بالاحترام والتقدير٬ مثل مذكرات لويس عوض «أوراق العمر» التي تحدث فيها بصراحة شديدة عن أمور كثيرة تتعلق به وبأسرته٬ ما جعل شقيقه يرفض إعادة إصدارها بعد رحيله. ومثل مذكرات الزعيم سعد زغلول التي اعترف فيها أنه كان يدمن القمار. أما «الخبز الحافي» فعلى رغم اعتمادها على بعض حوادث حياة صاحبها إلا أنها في النهاية عمل روائي مسموح فيه بكثير من التجاوزات. حين شرعت في كتابة مذكراتي٬ قررت ألا ألتزم بهذه الثنائية الموجودة في السير السابقة٬ وحاولت أن أكون صريحاً وأكتب ما هو في مصلحتي وما هو غير ذلك. كما التزمت بالتوثيق. لأنه لا يكفي أن يكتب أحد في السيرة الذاتية أنه حدث كذا وكذا٬ فما أدراني كقارئ أن هذا قد حدث بالفعل؟ خصوصاً أنه ستكون هناك روايات لآخرين. تضمّن الكتاب 150 صورة ينشر معظمها للمرة الأولى، وتكاد تكون سيرة ذاتية موازية للنص. أما المعيار الثالث الذي لم أقصده فهو الأسلوب الأدبي في السرد٬ لكوني أديباً. وأعتقد أن ذلك كان أحد أسباب نجاح المذكرات ما جعل طبعتها الأولى الصادرة في بداية 2018 تنفد من السوق خلال فترة وجيزة. ذكرتَ أنك كنت ملحداً في شبابك، فكيف خرجت من تلك التجربة؟ - كان ذلك في سنوات المراهقة، سنوات التمرد على كل شيء، فقد كنت أقرأ لفلاسفة الإلحاد مثل شوبنهاور ونيتشه وغيرهما، واقتنعت بما قالوه فقد بحثت عن الله بعقلي فلم أجده، وعجزت عن فهم ماهيته، لكن تلك فترة لم تدم طويلاً، فقد اكتشفت أنني مؤمن في داخلي، وأن الله نعرفه بالروح التي هي جزء منه، وليس بعقلنا القاصر. وعلى رغم أنني تخطيت تلك المرحلة إلا أنني وجدت لزاماً عليّ أن أتوقف عندها في مذكراتي، وكذلك عند تجربتي الجنسية الأولى، التزاماً بمبدأ الصراحة الذي اتبعته، وعلى رغم أن ذلك أغضب البعض، إلا أنني لست نادماً عما كتبت، وعند إصدار الطبعة الثانية من الكتاب سألني الناشر ما إذا كنت أريد حذف أي شيء، فقلت له: ولا حرف، فكيف أحذف شيئاً حدث بالفعل. ذكرت أن جدك؛ محمد شتا بك؛ تبرع بموازنة فيلم أم كلثوم «نشيد الأمل»٬ فلماذا لا نرى الآن هذه النماذج من رجال الأعمال في مصر؟ - جدي كان رجل أعمال غامر ففقد ثروته ثلاث مرات بسبب ظروف الحرب٬ وكان محباً للفن ومن المؤمنين بالتنمية الشاملة لمصر. كان صديقاً مقرباً لطلعت حرب وحين علم منه أن «ستديو مصر» سينتج فيلماً لأم كلثوم٬ قرر أن يتبرع بتكلفة الفيلم٬ بخاصة أنه كان قريباً من سيدة الغناء العربي، والتي كانت دائمة الحضور للحفلات التي يقيمها في منزله، ونشرت في الكتاب صورة الدعوة إلى حفل زواج والدي ووالدتي٬ مكتوب عليها: وتحيي الحفل الآنسة أم كلثوم. أما عن اختفاء هذه النماذج فيرجع إلى تغير الظروف وكل مناخ يفرز الرجال الذين يشبهونه٬ من خلال التوجهات العامة السائدة في ذلك العصر. المرحلة التي تتحدثين عنها كانت نتاج ثورة 1919 والمناخ الذي ساد حينذاك٬ من المناداة بالاستقلال والحرية وجلاء القوات البريطانية، إلى التنوير والازدهار. هذه الروح الوطنية نزعت نحو التقدم والارتقاء. أيضاً، في فترة الخمسينات والستينات٬ سادت مبادئ القومية العربية والعدالة الاجتماعية٬ ومعركة بناء السد العالي والوحدة مع سورية. هذا كله خلق لدينا نهضة في مجالات الحياة كافة، لكن بعد ذلك حدث تراجع في السبعينات فتدهور التعليم وسقطت المبادئ الكبرى التي تربينا عليها، فنشأ جيل من رجال الأعمال يبحث عن مصلحته الشخصية ولا يعنيه كثيراً تقدم الفنون والآداب. هل وجدت معارضة من أسرتك على خلفية تأييدك ثورة 1952، بعد أن طبَّقت عليكم بعض القوانين الاشتراكية؟ - وجدت معارضة من جدتي مثلاً التي قالت لي ذات مرة أن أكثر شخصين كرهتهما طوال حياتها٬ كانا عبدالناصر وجدي، وكنت أعرف أنها كرهت عبدالناصر نتيجة تأميم أراضيها وممتلكاتها٬ لكن لم أعرف حتي الآن سر كرهها لجدي. أما والدي فقد جمعنا بعد تأميم شركاته التجارية والصناعية وشرح لنا منطق هذا القرار٬ وقال لنا أن عبدالناصر لم يأخذ هذه الأموال لنفسه إنما الهدف هو إعادة توزيع الثروة٬ لأن الغالبية من الشعب لا تملك إلا القليل٬ بينما الأقلية هي التي تملك ثروات البلد. والحقيقة أنا مدين لوالدي بأنني لم أشعر بالمرارة التي كنت أجدها في نفوس بعض أصدقائي٬ ممن طُبقت على أسرهم هذه القوانين. ولو كان لديَّ هذا الشعور لما استطعت الانتماء إلى البلد أو المجتمع٬ وبالتالي لما استطعت أن أحقق أي إنجاز في حياتي. رويتَ في مذكراتك أنك كنت تضع علم فلسطين على مكتبك كي تتفادى صحافيين إسرائيليين الذين كانوا يأتون إلى جريدة «الأهرام» بعد توقيع اتفاقية كامب ديفيد، كما قمت بإعداد برنامج من 8 حلقات للتلفزيون الأميركي حول الصراع العربي - الإسرائيلي، فهل ترى أن الرأي العام الغربي ما زال يحتاج اليوم٬ إلى شرح القضية الفلسطينية على طريقة ذلك البرنامج أم إن هذه التجربة تعد اليوم تطبيعاً؟ - هذه التجربة لم تكن تطبيعاً٬ لأنني لم أكن أعمل مع إسرائيليين٬ بل كنا نعمل ضد بعضنا بعضاً. كنتُ أعالج القضية من وجهة النظر العربية٬ بينما كان هناك فريق تلفزيوني آخر في إسرائيل يقدمها من وجهة نظر إسرائيل٬ وكانت وجهتا النظر تعرضان في البرنامج. وحين كنا نقول في السبعينات إن للفلسطينيين حقاً وإنهم أصحاب الأرض٬ كانت تعتبر هذه معلومات جديدة تماماً على الرأي العام الغربي٬ والذي كان يقال له أن فلسطين أرض بلا شعب٬ ذهبت إلى شعب بلا أرض. فإذا بهم فجأة يكتشفون أن الأرض لم تكن بلا شعب٬ وإنما الشعب أزيح منها بالقوة لكي يفسح المجال للمهاجرين مِن دول أخرى. اليوم، أصبح هناك وعي كبير جداً في أوساط الرأي العام الغربي بحقائق القضية الفلسطينية٬ في الوقت الذي تراجع الجانب العربي عن توضيح الحقائق لانهماكه في قضاياه الداخلية، سواء في اليمن٬ أو العراق٬ أو ليبيا٬ أو السودان٬ أو سورية٬ أو حتى مصر في مواجهتها للإرهاب. بالتالي، تراجعت القضية الفلسطينية في المشهد العربي قليلاً٬ بينما اكتسبت أبعاداً جديدة في المشهد العالمي. وليس هناك شك في أن وسائل الاتصال الحديثة كان لها دور كبير في هذا٬ ففي السابق كانت الجاليات الصهيونية أو اليهودية ودوائر الضغط مسيطرة على الإعلام٬ فإذا أرادت ألا تنشر شيئاً عن مأساة حدثت في دير ياسين أو غيرها لا تنشره، أما الآن فحين تشن قوات الاحتلال هجوماً على غزة، فإن أخبار هذا الهجوم وصور ضحاياه تصل إلى الناس جميعاً في اللحظة ذاتها مِن طريق وسائل الاتصال الرقمية الحديثة٬ من دون المرور عبر جريدة «نيويورك تايمز» مثلاً التي تسيطر عليها الجالية اليهودية أو غيرها من وسائل الاتصال الرسمية. هذا فتح مجالاً جديداً وخلق نوعاً من الوعي لدى الرأي العام لم يكن موجوداً٬ لذلك وجدنا أنه بينما كانت الدول العربية تقاطع أو تدعو إلى مقاطعة إسرائيل في السابق٬ فإن دعوات المقاطعة تأتي الآن من داخل الدوائر الأجنبية ذاتها. هناك الآن، حركة مقاطعة قوية داخل الوسط الجامعي البريطاني ضد الجامعات الإسرائيلية٬ كما نجد في فرنسا ودول أوروبية أخرى حركة مقاطعة قوية ضد المنتجات الغذائية الواردة من الأراضي العربية المحتلة. هناك تحول حصل في الرأي العام الأجنبي أرجو أن نلحق به. أي نكون على المستوى ذاته ولا تكون دعوة المقاطعة آتية من الغرب فقط٬ بينما هناك من الدول العربية من يقيمون علاقات علنية أو سرية مع إسرائيل. وُصِفَت روايتك «أجنحة الفراشة» بأنها نبوءة لثورة 25 يناير... إلى أي مدى يستشرف المبدع المستقبل؟ - المبدع دائماً يستشرف المستقبل٬ لأن نظرته إلى الحياة تختلف عن نظرة الصحافي مثلاً. الصحافي ينظر إلى الحدث الذي يقع تحت قدميه وإذا حاد عنه٬ حاد عن الصحافة، والتي تعتمد على الآنية٬ فهي لا تنظر إلا إلى ما هو آني٬ بينما نظرة الأديب أكثر شمولاً. حين كتبتُ «أجنحة الفراشة» عام 2010، كنتُ أرى أن الوضع الذي كان سائداً تحت حكم حسني مبارك لم يعد قابلاً للاستمرار بعد أن ضاقت حلقاته في شكل لم يعد محتملاً، وقد أوصلتني حوادث الرواية في النهاية إلى ضرورة حدوث انفجار٬ صوَّرتُه في شكل ثورة شعبية. الغريب الذي جعل الناس تتوقف كثيراً عند توقعي هذا٬ أن وصفي هذه الثورة كان قريباً جداً مما حدث يوم 25 يناير٬ فقد قلتُ أن الثورة ستحدث في ميدان التحرير٬ وأن الشباب سيوقدون شعلتها الأولى وأن الشعب كله سينضم إليهم، وقلتُ أنه سيُطلَب من الجيش أن يتصدى لهذه الثورة٬ وأنه سيرفض وسينضم إلى الجماهير٬ وأن هذا سيؤدي إلى سقوط الحكم. وأذكر أن كثيراً من الصحافيين عندما كانوا يجرون معي حوارات بعد صدور الرواية٬ كانوا يقولون ربما أنت الوحيد الذي لم يفاجأ بالثورة٬ فكنتُ أقول أنني أكثر مَن فوجئ بها٬ لأنه حين يكتب الإنسان عن حدث أو يتصور حدوثه٬ فهذا شيء، وأن يرى ما تصوره يتحقق أمام عينيه، فهذا شيء آخر. أصدرت كتابك «مسدس الطلقة الواحدة» عن فترة حكم «الإخوان»، لكن هل ستكتب عن ثورة 30 يونيو 2013 روائياً كما كتبت عن 25 يناير؟ - أعكف على كتابة الجزء الثاني من مذكراتي٬ حيث أشعر بأنه عليّ أن أكمل القصة، بخاصة بعد الاستقبال الجيد للجزء الأول. فما زال لديَّ الكثير مما أرويه عن حوادث كبرى مرت على هذا البلد. الجزء الثاني من المذكرات سيتعرض لفترة حكم حسني مبارك٬ وفترة الثورة ودوري فيها٬ سواء في 25 يناير أو في 30 يونيو٬ سواء موقفي الشخصي أو من خلال رئاستي اتحاد كتاب مصر، حيث كنت قد عقدت اجتماع جمعية عمومية طارئ لاتحاد الكتاب٬ ونتج من هذا الاجتماع سحب ثقة أدباء مصر وكتابها من رئيس الجمهورية محمد مرسي أثناء حكمه٬ وهذا لم يحدث من قبل ولا بعد٬ ثم بعد ذلك هناك فترة كتابة الدستور ضمن لجنة الخمسين٬ والتي شرفت بأنني انتخبت بالإجماع ناطقاً رسمياً باسمها. هذه حوادث كبرى لديَّ فيها ما لا يعرفه أحد٬ بالتالي يجب أن أكمل هذه القصة قبل أن أنتقل إلى كتابات أخرى٬ ولديَّ أفكار كثيرة بالنسبة إلى روايات عدة، ومسرحية تداعبني٬ لكنني أحاول أن أؤجل هذا إلى أن أنتهي من الجزء الثاني للمذكرات.