قال الأديب المصري الكبير يوسف القعيد إن أجمل ما في ثورة تونس أنها هزمت الثقافة الأبوية، وأما ثورة شباب 25 يناير فقد استطاعت أن تغيّر وجه مصر في العالم، وأشار إلى أن روايته “الحرب في بر مصر” ظلت ممنوعة في مصر لمدة ثماني سنوات بسبب محتواها السياسي، مؤكدًا في الوقت نفسه أن كثيرًا من رواياته جاءت بتأثير من العمليات العسكرية في الواقع الاجتماعي المحيط بالحرب. كما تحدث الأديب عن ذكرياته مع العديد من الأدباء المصريين، ومنهم الراحلان نجيب محفوظ ومحمد عبدالحليم عبدالله، وقال ان علاقته بمحفوظ كانت في غاية الغرابة، ووصفه بأنه “رجل تختلف معه وتحبه في نفس الوقت”، وتحدث أيضًا عن الرواية السعودية وقال انه أعجبته رواية “فتنة جدة”، وأوضح أسباب رفضه للمشاركة في معرض الكويت للكتاب رغم أنهم وجهوا له الدعوة. الأديب القعيد فتح قلبه ل “الأربعاء” في هذا الحوار المفتوح ليتحدث عن الكثير من الأمور والموضوعات.. ثورتا تونس ومصر تحدث الأديب القعيد عن الثورات التي شهدتها بعض الدول العربية مؤخرًا، ومنها مصر، فعن ثورة تونس قال: “مشكلتنا دائمًا أننا نحتاج رمزًا نمشي وراءه، وأعظم ما في ثورة تونس أنها لم يكن لها زعيم ولا قائد، لتهزم الثقافة الأبوية التي تقول بالمثل المصري ((اللي ما لهوش كبير يشتري له كبير))». وفي تعقيبه على الأحداث في فترة لاحقة، قال القعيد عن ثورة مصر: “إن ما فعله الشباب المصري يوم 25 يناير لن ولم يحدث في العالم، فمصر كانت في محنة من قبل، جعلت العالم يرى شعبها ذليلًا، لم يعد قادرًا على التفاعل مع قضايا وقيادة المنطقة كما كان في الماضي، لكن شباب 25 يناير هزموا الحكومة الذكية وغيّروا وجه مصر في العالم كله”. كما أن القعيد أشار في ندوة نقلتها قناة النيل الثقافية إلى مظاهر القمع التي واجهها ككاتب، قائلًا: “ظلت روايتي ((الحرب في بر مصر)) ممنوعة من مصر من عام 77 إلى عام 85 وكان المنع بسبب محتواها السياسي لأنها تقول ان الحرب قام بها الفقراء وحولها الأغنياء إلى مشروع استثماري ولهذا طبعت الرواية في بيروت وفي فلسطينالمحتلة وبغداد والسودان والجزائر ولم تطبع في مصر إلا بعد ثماني سنوات، بل إن الفيلم المأخوذ عنها ((المواطن مصري)) ظل مخرجه الراحل الكبير صلاح أبو سيف في معارك مع الرقابة والمحاكم حوالى عشر سنوات ولولا الرقيب حمدي سرور لما قُدمت هذه الرواية كفيلم في بداية التسعينيات”. ويضيف: “تدور أحداث الرواية في قرية من قرى مصر قبيل حرب 1973، حيث يتنصّل عمدة القرية من إرسال ابنه الأصغر للالتحاق بالجيش كما يفترض به أن يفعل، ولكيلا ينكشف هذا الأمر، يقوم بإرسال ابن خفيره (مصري)، التلميذ الفقير المتفوق، ليؤدي الواجب الوطني بدلًا من ابنه”. ورجوعًا إلى الأجواء التي كتب فيها الرواية، قال القعيد: “كان عام 67 هو عام المؤامرة والانتكاسة، أما عام 1973 فهو عام الرغبة في الثأر واسترداد الأرض المحتلة، وما بين الانتكاسة والانتصار عايشت اليقظة الكبرى، فقد مكثت في صفوف الجيش المصري حوالى تسع سنوات، وكنت أحد أفراد الدفعة التي صرّح الرئيس الراحل عبدالناصر بأنها لن تُسرح من الخدمة حتى تحرير كامل التراب الوطني المحتل”. وواصل: “كانت تجربة حياتية أساسية بالنسبة لي، خاصةً أنني كنت مجندًا ولست ضابطًا، لم أشهد المعارك الحربية فقد جندت في المستشفى العسكري الذي يستقبل شهداء الجبهة ويقوم بتجهيزهم وتوصيلهم إلى قراهم حسب العناوين المذكورة لدينا، وهو ما ذكرته في الرواية التي تحولت إلى فيلم ((المواطن مصري)) للمخرج صلاح أبو سيف”. الحرب المنسية وقال القعيد: “جاء كثير من رواياتي عن تأثير العمليات العسكرية في الواقع الاجتماعي المحيط بالحرب، كما كتبت أيضًا عن الحرب المظلومة والمنسية وهي حرب الاستنزاف التي بدأت أواخر عام 1968 حتى عام 70، وهي حرب عربية اسرائيلية لولاها لما حدثت حرب أكتوبر، وهي الحرب التي اُستشهد فيها عبدالمنعم رياض أول رئيس أركان يذهب للخطوط الأمامية ويستشهد هناك”. وفي بحث عن جذور الوعي والكتابة، قال القعيد: “أنا مولود في يوم 2 أبريل سنة 1944 في قرية اسمها الضاهرية، مركز إيتاي البارود، محافظة البحيرة، وعندما بحثت عن تاريخ القرية اتضح أنها فرعونية معمرة، وكان اسمها منية أبليج في زمن مصر القديمة (الفراعنة)، ثم أتى الظاهر بيبرس وجدّد هذه القرية خلال جولاته في مصر، واتضح لي أن هناك سبع قرى في الوطن العربي تحمل اسم الضاهرية، منها ثلاث في مصر، وأنا ولدت في أسرة فقيرة جدًا لا تملك أرضًا زراعية، ووالدي كان يعمل بتجارة القطن، وبعدما حدث ما حدث لتجارة القطن في مصر تحول لتجارة الخضر والفاكهة، وأنا أكبر أشقائي وتعلمت في كُتّاب القرية، وبعد ذلك جاءت أول مدرسة تعليمية في قريتنا، فتركنا الكُتّاب وذهبنا إلى المدرسة وواصلت التعليم حتى معهد المعلمين العالي من دمنهور، وعملت مدرسًا بالتربية والتعليم سنة ونصفا أو سنتين، وعشت تجربتي النكسة والانتصار، وعملت بالصحافة حتى أول فبراير سنة 2002، وقررت أن أصبح كاتبًا متفرغًا وألا أكمل فكرة العمل الصحافي اليومي، وهو تفرغ لا علاقة له بمنحة التفرغ التي تمنحها وزارة الثقافة المصرية للكتّاب، وإنما تفرغ جاء بقرار داخلي ويهدف إلى التحرر من الكتابة في إطار مؤسسة بعينها”. وأضاف: “أنا من القلة التي استمرت في الكتابة بعد فترة المراهقة، فالكثير يشعرون في مرحلة المراهقة بمشاعر غامضة ويكتبون رسائل وأبيات شعر، ثم يتوقفون، لكنني واصلت وكتبت الشعر والمسرح والقصة القصيرة وكتبت الرواية إلى أن جئت إلى القاهرة مجندا في القوات المسلحة المصرية، وحصل احتكاك بيني وبين الواقع الثقافي المصري في عهد عبدالناصر، وبدأت أجرّب نفسي في الكتابة، وكانت “الحداد” أول رواية نشرت في مايو سنة 1969 وليست نصي الأول، لديّ نصوص أخرى لم أتمكن من نشرها، لكن هذا هو النص الذي نشرته ضمن مشروع نشر كان يقيم عليه الأستاذ سمير ندا وصديقي جمال الغيطاني ودفعنا من جيوبنا أموالًا بسيطة، طبعنا بها كتاب جمال الأول ثم كتبًا أخرى صدرت في سلسلة كان عنوانها كتاب “الطليعة”. عبدالحليم أهدانى “شمس الخريف” ويذكر القعيد: “كنت التقيت الأديب المصري محمد عبدالحليم عبدالله حين زار دمنهور للمشاركة في مناقشة روايته “شمس الخريف” بقصر الثقافة عام 1962 وأهداني الرواية ودعاني للمشاركة في الحوار، وسهرت معه في الفندق الذي نزل به، وبعد ذلك زرته في بيته وفي مجمع اللغة العربية، وكان في بداية خلافه الشهير مع المجمع الذي انتهى إلى تركه العمل به بعد معركة غير عادية مع طه حسين، ثم عرفت نجيب محفوظ واكتشفت أنه أكثر كاتب متاح للكتّاب الجدد، وكنا نجالسه على المقهى، نرفع سماعة التليفون ونكلمه في بيته ويعطينا مواعيد نذهب فيها لمقابلته ببساطة متناهية بدون أي تعقيدات، ومنذ أن ذهبت إلى مقهى ريش لمقابلة محفوظ في سنوات الكتابة الأولى ظلت علاقتي به إلى ظهر اليوم الذي توفي فيه”. محفوظ تختلف معه وتحترمه وعلاقتي بنجيب محفوظ علاقة بالغة الغرابة، فقد اختلفت معه كثيرًا في أشياء وجادلته كثيرًا حول موقفه من ثورة يوليو وموقفه من جمال عبدالناصر وموقفه من معاهدة السلام مع العدو الإسرائيلي ومن عروبة مصر والقومية العربية، لكن الرجل كان يمكن أن تختلف معه وتحبه ويحبك ويحترمك أيضًا، وحاولت كثيرًا أن أتعلّم منه ليبراليته، لكن لم أتمكن، لأني تربيت في زمن غير زمنه، وتنفست هواء غير هوائه، وعشت أفكارًا غير أفكاره، فلم أستطع أن أكون ليبراليًا حقيقيًا، وفي المقابل فإن الحوار مع المثقفين يدخل في أزمة حقيقية، فلا أحد يحاورك ولا أحد يريد أن يستمع إلى وجهة نظر أخرى، وعندما يحاورك أحد فهو يريد أن يضمك لصفه، ويريد أن يأخذك لما يؤمن به، يريدك أن تتخلى عما تقتنع وتؤمن به، لا حوار ولا إنصات ولا رغبة حقيقية في النقاش”. الإبداع ومأزق الجنوب * سألناه: منذ “الحداد” إلى “الحرب في بر مصر” إلى “قسمة الغرماء”، وهناك حديث عن الريف الذي يعاني، وكأنما الريف مرتبط بالمعاناة، هل المعاناة هي المولدة للإبداع؟ - رد قائلًا: “كثير من كتّاب الجنوب الأمريكي، ومن الجنوب الفرنسي، ومن الجنوب الإيطالي، أبدعوا من المعاناة، الريف عندنا ليس الجنوب فقط، فأنا مولود في البحيرة (وسط الدلتا) لكن عندي أصول من سوهاج (صعيد مصر)، مأزق مصر أنها كلها من دول الجنوب بالنسبة للشمال الغربي، ومأزق الريف هو مأزق مصر مضروبًا في اثنين، في الريف المأزق الأساس أنه ورث تركة الأمية والبلهارسيا وأسلوب زراعة شديدة التخلف يعني التانبور والمحرات من أيام قدماء المصريين في القرن الخامس قبل الميلاد، وفي نفس الوقت الفلاح يمسك الموبايل وابنه يمسك الآلة الحاسبة، في القرية يتجاور مقهى الإنترنت مع الجهل والأمية والفقر ومع عدم الانتماء وعدم المعرفة، نقترب من مجهول لا نعرف عنه شيئًا”. * وسألناه أيضًا: كنت في حالة صدام مع المدينة باعتبارك من الريف، وهذا ظهر كثيرًا في رواياتك، هل تغيّرت نبرتك عن الريف الآن وأنت تقول ان الريف أصبح ممسوخًا لا هو ريف ولا هو مدينة، هل تغيّر هذا البعد فيما تكتبه الآن في رواياتك أو مقالاتك؟ - عندي مقولة أرددها كثيرًا وهي أن القرى خلقها الله، لكن المدن بناها البشر، وهذا كان إيمانًا بفضائل القرية المصرية التي لم يعد لها وجود الآن، فعندما أذهب إلى القرية أجد عندي فزعًا حقيقيًا من حجم المسخ والتشويه الذي حدث في بنية القرية المصرية في السنوات الأخيرة، وحجم التخريب الذي حدث لمخزن القيم، كنت أعتبر أن مجتمع القرية مجتمع راق، يحمي أبناءه، ويقيهم ويجعل ظروفهم أفضل لكن للأسف الشديد حتى هذا المجتمع الراقي لم يعد له وجود. * صرّحت بأن امتناعك عن المشاركة في معرض الكويت للكتاب كان لأسباب خاصة، هل يمكن أن توضح أكثر عن هذا الأمر؟ - ليس هناك أسباب خاصة، الناس أرسلوا لي دعوة للمشاركة، وعرفت من خلال وكالات الأنباء أنهم منعوا لي ثلاث روايات من العرض، واكتشفت أن هناك تناقضًا شديدًا بين أن يرحبوا بشخصي، وأن يمنعوا كتبي، ولذلك رفضت الذهاب، وهذه الأعمال هي: “قسمة الغرماء وقطار الصعيد والقلوب البيضاء”. فتنة جدة * باعتبارك متابعًا للحركة الثقافية والأدبية العربية، كيف ترى الابداع والنقد السعودى؟ - أنا قرأت الشهر الماضي رواية بعنوان “فتنة جدة” وكانت دخلت في القائمة الكبيرة للبوكر وهذا هو أول نص يكتبه شاب سعودي يعمل حاليًا مدرس رسم في إحدى مدارس جدة لكنه نص جميل جدًا، وتقع الرواية فى 320 صفحة من القطع المتوسط وتستلهم أحداثها من حادثة واقعية حدثت فى جدة فى القرن التاسع عشر عام 1858 ويرجع سبب اشتعالها إلى (صالح جوهر)، أحد تجار جدة، الذى كان يمتلك سفينة يرفرف على صاريتها العلم الإنجليزى، فأراد (جوهر)، استبدال علم بريطانيا بعلم الدولة العثمانية وقام باستبداله بعد أن أخذ الإذن من الوالي نامق باشا فغضب لذلك القنصل الإنجليزى وذهب إلى البحر ودخل المركب المذكور وأنزل علم الدولة العثمانية ورفع علم إنجلترا، ولما أنزل القنصل علم الدولة العثمانية داسه برجله وتكلم بكلام غير لائق فغضب لذلك سكان جدة وهاجوا هيجة عظيمة وذهبوا إلى دار القنصل، وقد استعان الكاتب فى روايته بالكثير من المصادر؛ منها ما هو عربي وما هو غربي ومن أهمها ما دوّنه الرحالة الفرنسى شارل ديديه، الذى جاء إلى جدة قبل حدوث الفتنة بأشهر أو بعام، حيث أعطى لمحة عن الجو العام السائد فى جدة سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا لأنه عاش فى جدة فترة طويلة كان خلالها يذهب إلى الأسواق ويحتك بالبسطاء ويزور بعض تجار جدة وأعيانها يذهب إلى الميناء ويرقب حركة السفن ويتفرس فى وجوه القادمين والذاهبين ويسجل كل شاردة وواردة بدون إبداء رأي شخصي.