من شاهد الاحتفالات التي رافقت بدء انفصال جنوب السودان عن باقي الوطن، ومشاركة العديد من الدول، خصوصاً الغربية منها، وسرعة اعترافها بهذا الانفصال، لابد من أن يشعر بأن المرحلة العملية الأولى من مراحل تقسيم الدول العربية بدأت، وأن تنفيذ هذا المخطط أصبح مسألة وقت، بدءاً بانفصال جنوب السودان، والله أعلم أين ينتهي هذا التقسيم، ما دام الضعف والوهن يدب في الجسم العربي، وبدأت العرب شعوباً وحكومات بتقبل التفكيك. يجمع أغلب الخبراء والمراقبين والمحللين ويعتقدون بأن الآثار السياسية لهذا التقسيم ستكون سلبية جداً، إن لم تكن كارثية، ليس على السودان فقط، بل على جميع الدول العربية، خصوصاً مصر، التي ستتأثر بشكل كبير من جراء هذا الانفصال الذي اعترفت به الدولتين قبل جميع الدول العربية، فستفقد السودان 80 في المئة من دخل النفط الذي ساهم في تعزيز اقتصاد السودان في السنوات الأخيرة، وكذلك تفقد مساحة تقدر بحوالي ثلث السودان وهو ما يشكل عمق استراتيجي لها. أما مصر فستفقد سيطرة السودان على جزء لا بأس به من منابع النيل، ولذلك خلق دولة ضعيفة مقزمة اقتصادياً وسياسياً سيجعلها ترتمي بأحضان من ساعدها على الانفصال –الغرب وإسرائيل- وتعمل على مشاكسة مصر والسودان تنفيذاً لمصالح دول تريد إضعاف هاتين الدولتين العربيتين، خصوصاً مصر ليبقى الوطن العربي ضعيفاً أمام الدول الأخرى الإقليمية والدولية.إن إضعاف السودان ومن بعدها مصر هو أحد الأهداف الرئيسة لانفصال الجنوب، حيث ساهمت الدول العربية وجامعتها بما حصل للسودان، لأن مواقفها لم تكن واضحة وحاسمة، خصوصاً مصر في مرحلة ما قبل الثورة، بل ساهمت كثيراً في الضغط على السودان وعزلة بسبب خلافات سياسية وشخصية بين قادة البلدين، أدت إلى إضعاف موقف السودان تجاه الوضع الذي يتهدد مصالحه، ظناً من القيادة المصرية السابقة، أنها تستطيع إسقاط حكومة السودان، ولكن في النهاية يبدو أن البلدين هما من تضررا من الصراع السياسي والخلافات في التوجهات بين القيادتين فيهما، حتى وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه. لقد كان الدور الإسرائيلي والأمريكي في هذا الانفصال، واضح جداً، حيث دأبت إسرائيل على دعم تمرد جنوب السودان منذ الخمسينات، لضرب العمق الاستراتيجي لمصر، وخلق نوع من الضغط على مصدرها الحيوي من المياه، من خلال خلق دولة جديدة تسيطر على جزء من منابع نهر النيل، وهو حلم راود الإسرائيليين منذ تأسيس كيانهم الغاصب، لأنهم ينطلقون من نظرية إضعاف كل من حولهم من الدول العربية، سواء عسكرياً أو من خلال تفكيك بعض الأطراف من الوطن العربي، ومن ثم الدخول إلى الداخل وخلق نوع من عدم الاستقرار بين فئات وطوائف الشعوب العربية، تساعدهم على البقاء كأقوى قوة في المنطقة العربية. يبدو أن فرض الأمر الواقع، بانفصال جنوب السودان، وتقبل الدول العربية له، سيساهم مساهمة كبيرة في إبعاد فكرة الوحدة العربية، وحتى التعاون البناء، ومن ثم يصبح التركيز على الدولة القطرية وتعزيز فكرتها، ومن ثم يبدأ التفكير في خلق كانتونات صغيرة وضعيف، تتحكم بها قوى خارجية، تكون هذه الكانتونات قائمة على أساس فئوي أو طائفي، وهو ما تحلم به إسرائيل من قبل تأسيسها، ولذلك انفصال جنوب السودان هو خطوة عملية بالنسبة لهذا المخطط ونجاح للدول التي تريد تمزيق وحدة المنطقة. لذا لم يكتفوا بمنع قيام كيان عربي موحد، بل عمدوا إلى تفكيك الكيانات القائمة مثل السودان الآن، والتخطيط لتفكيك دول أخرى. لقد راهن الرئيس السوداني عمر البشير، على رفع العقوبات التي فرضت على السودان، في حال وافق على انفصال الجنوب بسلاسة، لكن الواقع وحسب رأي العديد من المراقبين يقول، أن العقوبات لن ترفع، وحكم محكمة الجنايات الدولية لن يرفع، وسيبقيان سيوفاً مسلطة على السودان الشمالي، حتى يفككوه كاملاً من دارفور إلى كردفان، وبعدها لن يكون هناك أي فائدة من رفع العقوبات وأي قرارات دولية مفروضة على السودان، ولذلك لن تنتهي المشاكل بين الجنوب والشمال في الانفصال، بل هي بداية لمسلسل طويل من المشاكل، منها منطقة أبيي المتنازع عليها، والتي ستكون فتيل لاستمرار المشاكل بين البلدين ومفتاح للتدخلات الخارجية، وكذلك تقاسم عائدات النفط بين البلدين، إضافة إلى مشكلة الجنوبيين القاطنين في الشمال، والتي جميعها ستكون عائق للتطبيع بين البلدين. إن ما جرى في السودان يجب الاستفادة منه على المستويات كافة، لأن التغاضي عنه سيجر المنطقة العربية إلى كوارث تقسيم أخرى، لن تنتهي في دولة واحدة، بل ستصل للجميع بدون استثناء، مادام مصالح أعداء العرب تتطلب ذلك، ولذلك يجب على العرب الوقوف مع السودان ودعمه بشكل واضح وجلي في صراعه مع آثار انفصال الجنوب، وعدم التهاون بهذه الآثار التي يمثل الانفصال منها رأس جبل جليدي في المحي. إن ما جرى في السودان هو بداية التفكيك بعد أن بدأ التفكك من خلال الحروب الأهلية وفشل البرامج السياسية في العديد من الدول العربية ومن ضمنها السودان الذي لم يستطع أن يقاوم مشروع التقسيم، وساهم فيه بشكل مباشر، من خلال سياسة التصعيد مع الطوائف الأخرى فيه، ولكن لا بد من معرفة، إذا كان هذه التصعيد هو مفروض عليه، من خلال دعم القوى الخارجية لهذه الطوائف بهدف عدم التفاهم مع الشمال، وحمل السلاح، وخلق بيئة للتدخلات الخارجية، أم أن ترك السودان لوحده يواجه مصيره ويدير صراعه مع القوى الأخرى هو من ساهم في الوصول لهذا الوضع. لا شك أن سياسة السودان ساهمت في تكريس الانفصال، لكن التخلي العربي عنه، وخصوصاً مصر كان عامل مؤثر جداً. والسؤال المطروح هو: هل انفصال جنوب السودان يجسد بداية لنكبات جديدة في العالم العربي؟ * أكاديمي سعودي.