كثيرة هي الدلالات التي انطوت عليها العملية التي نفذتها الاستخبارات التركية أخيراً لاختطاف ستة من العناصر التابعة لحركة «خدمة» التي يرأسها خصم أردوغان اللدود الداعية التركي المقيم في بنسلفانيا منذ عام 1999، فتح الله غولن. فمن جهة، تعكس عملية كوسوفو وما شابهها من عمليات لم يتم الإعلان عنها، تحولاً نوعياً في استراتيجية أردوغان الرامية إلى ملاحقة معارضيه وتوقيف أتباع حليف الأمس وعدو اليوم فتح الله غولن. إذ يبدو أن إخفاق مساعي أردوغان في إقناع السلطات الأميركية بتسليمه غولن وفقاً لمعاهدة تسليم المطلوبين التي أبرمتها أنقرة مع واشنطن عام 1979 ودخلت حيز التنفيذ عام 1981، بالتوازي مع فشله في استجداء تعاون باقي الدول التي تستضيف عدداً من رجال غولن بغية توقيفهم وتسليمهم للسلطات التركية، سواء بموجب اتفاقات لتسليم المجرمين أو في شكل ودي، لمحاكمتهم بتهم شتى، أبرزها تشكيل كيان موازٍ متغلغل في مؤسسات الدولة التركية بغية تقويض تجربة أردوغان وحزب العدالة، والحيلولة دون نجاح الرئيس التركي في إطلاق جمهوريته الثانية بحلول عام 2023، علاوة على الضلوع في ترتيب المحاولة الانقلابية الفاشلة في تموز (يوليو) 2016. هذا كله دفع الرئيس التركي إلى تكليف أجهزته الأمنية باعتماد أساليب استخبارية لملاحقة المعارضين. وفي حين أبدت دول مثل ميانمار وكازاخستان وماليزيا تعاوناً مع أنقرة في هذا الصدد، رفضت دول أخرى، ما دفع أجهزة أمنية تركية إلى الشروع في تنفيذ عمليات ترحيل غير قانونية لبعض رجال غولن من دول عدة بعضها عربي، وصولاً إلى واقعة اختطاف ستة عناصر من كوسوفو قبل أيام. وفي معرض إفصاحه عن الواقعة الأخيرة، لم يتورع بكير بوزداغ، نائب رئيس الوزراء التركي، عن المفاخرة بنجاح عمليات سرية مماثلة سبق لأجهزة الاستخبارات التركية أن نفذتها في 18 دولة أسفرت بدورها عن إعادة 80 عنصراً من جماعة غولن، معتبراً أن تلك النوعية من العمليات تتم في شكل «شرعي» حسب زعمه. وعلى رغم افتضاح أمر الصراع المحموم بين أردوغان وغولن في العام 2013 على خلفية شروع القضاء التركي في فتح ملفات فساد أشيع عن تورّط أردوغان ونجله بلال وعدد من وزرائه فيها، فيما ألقى أردوغان باللائمة على رجال غولن داخل المؤسسات القضائية والأمنية والإعلامية في افتعال تلك القضية بقصد الإضرار بسمعة الرئيس وأسرته وحزبه وحكومته، يكمن مبعث القلق لدى أردوغان في مخاوف متنامية تتملكه من أن تكون واشنطن عازمة على استخدام غولن ورقة ضغط سياسية ضده عند اللزوم، أو أن تكون بصدد إعداده ليكون بديلاً له، باعتباره يمثل النسخة الأحدث من الإسلام السياسي التركي. وبناء عليه، لم يتردد أردوغان في تحميل غولن وجماعته مسؤولية المحاولة الانقلابية الفاشلة الأخيرة، مثلما لم يتورع عن تصنيف الجماعة كمنظمة إرهابية انفصالية، شأنها في ذلك شأن حزب العمال الكردستاني. من جهة أخرى، لم يخل اختيار أنقرة دول البلقان مسرحاً لعملياتها الاستخبارية من إشارات بليغة لحرص أردوغان وحزبه على إبقاء النظرة التركية التقليدية للبلقان، الذي أضحى إحدى الوجهات المفضلة لأتباع غولن، باعتباره امتداداً جيواستراتيجياً وحضارياً للنفوذ التركي وفناءً خلفياً للتطلعات العثمانية الجديدة لحزب العدالة والتنمية، والتي نظّر لها وهندسَها رئيس الوزراء ورئيس الحزب السابق أحمد داود أوغلو، من خلال التخطيط لإعادة إحياء «الهلال الإسلامي» الذي دشنته الإمبراطورية العثمانية هناك في ما مضى، معتقداً أن منطقة البلقان، التي بدأ منها انهيار الإمبراطورية العثمانية، هي الأولى بالجهود التركية للاستثمار فيها ثقافياً واقتصادياً لاستعادة الأمجاد التليدة، معتبراً أن تركيا من دون منطقة نفوذ وخطوط دفاع في البلقان، لن تتمكن من تعظيم نفوذها في منطقة الشرق الأوسط، كما ستظل في موقف تفاوضي أضعف مع الأوروبيين. ويعكس تأكيد نائب رئيس الوزراء التركي عملية كوسوفو، حرص أردوغان على استعراض قدرات أجهزته الاستخبارية، بما يخوله استثمار عملياتها سياسياً عبر تحسين موقفه خلال الاستحقاقات الثلاثة التي تترقبها بلاده. ويتوقع أن تفاقم عملية كوسوفو التوتر بين تركيا وكل من الولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي، اللذين لا يبديان ترحيباً باستراتيجية أردوغان الرامية إلى إحياء النفوذ العثماني في أصقاع الإمبراطورية البائدة، لا سيما في البلقان. فبينما جرت عملية كوسوفو بالتزامن مع مباحثات كان رئيس الوزراء التركي بن علي يلدريم يجريها مع حكومة البوسنة المجاورة لإقناعها باتخاذ إجراءات صارمة بحق أنصار غولن المقيمين هناك، استبعد مسؤولون بوسنيون أن تسفر تلك المحادثات عن نتائج مرضية لأنقرة بعد افتضاح عملية كوسوفو. تبقى الإشارة إلى أن شيطنة الرئيس التركي لجماعة غولن وإصراره على ملاحقة قائدها وأتباعه حول العالم بمختلف السبل، من شأنهما مفاقمة أجواء الاستقطاب السياسي المفزع، التي اشتدت وطأتها على مستوى الداخل التركي المضطرب منذ المحاولة الانقلابية الفاشلة قبل عامين، وما استتبعته من تداعيات كارثية على التعايش السلمي والأمن المجتمعي وكذا التجربة الديموقراطية المتعثرة، على نحو ما تجلى في الحادث المأسوي الذي شهدته جامعة عثمان غازي قرب أنقرة أخيراً، حينما أقدم باحث في الجامعة يدعى فولكان بايار على إطلاق الرصاص الحي على نائب عميد كلية التربية وأمين سر هيئة التدريس وباحث أكاديمي وعضو آخر في هيئة التدريس، مبرراً جريمته تلك برغبته في معاقبتهم على الانتماء إلى حركة «خدمة» أو التعاطف مع مؤسسها. * كاتب مصري