يمكن القول إن الثلثاء 6 الجاري كان يمكن أن يكون «يوماً تاريخياً» لما بقي من البلقان خارج أوروبا أو الاتحاد الأوروبي... كان البلقان يوصف بأنه «الجسر بين الشرق والغرب» وبقي معظمه في الخرائط الأوروبية حتى مطلع القرن العشرين يظهر ضمن «الشرق الأدنى». وعلى رغم انحسار الحكم العثماني الطويل وظهور الدول القومية في القرن العشرين، فإن التمايز بقي واضحاً بين البلقان وبقية أوروبا بالمعنى السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي. ولكن مع آخر حرب في أوروبا (1999) وسقوط نظام سلوبودان ميلوشيفيتش (2000) في صربيا، برز تفاؤل جديد في بروكسيل لاستيعاب تدريجي لدول البلقان في الاتحاد الأوروبي لامتصاص أي نزاعات محتملة. وهكذا عقدت بروكسيل «قمة سالونيك» 2003 في البلقان وخصّصتها لإستراتيجية جديدة: الانضمام التدريجي لدول البلقان بناء على تقدمها في إنجاز الإصلاحات المطلوبة حتى تقترب من المعايير الأوروبية الموجودة في الاتحاد الأوروبي. وساهمت هذه الإستراتيجية في انضمام سلوفينيا (من جمهوريات يوغوسلافيا السابقة) في 2004 ثم رومانيا وبلغاريا في 2007 وأخيراً كرواتيا (من جمهوريات يوغوسلافيا السابقة) في 2013 لتصبح العضو ال28 في الاتحاد. تدخل روسياوتركيا في غضون ذلك، تقدمت الدول الأخرى التي بقيت وأصبحت تدخل ضمن المصطلح الجديد «غرب البلقان» (صربيا والجبل الأسود والبوسنة ومقدونيا وكوسوفو وألبانيا) في سيرورة الإصلاحات فحصل بعضها على وضعية «دولة مرشحة» وكوفئ بضمه إلى منطقة «شينغن. غير أن انفجار الوضع في أوكرانيا عام 2013 وضم روسيا شبه جزيرة القرم عام 2014 جعلا الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات موجعة ضد روسيا، وهو ما جعل هذه تعمل على مناكفة بروكسيل باستعادة نفوذها السابق في «غرب البلقان» بدءاً من صربيا من خلال استثارة المشاعر القومية والدينية التي تستمد مرجعيتها من «العلاقة التاريخية» بين روسيا ودول البلقان، وهو ما كان يغطي الدول المجاورة لصربيا (البوسنة والجبل الأسود وكوسوفو) بحكم الوجود الصربي المؤثر هناك. ومن ناحية أخرى دخلت تركيا الأردوغانية في الفترة الأخيرة، مع توتر علاقاتها مع دول الاتحاد الأوروبي بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 2016، على الخط إلى جانب روسيا وعمدت إلى شبك علاقة خاصة مع صربيا في 2017، ما جعل الاتحاد الأوروبي يتحسّس خطورة تزايد النفوذ الروسي- التركي في دول البلقان. ومن هنا «انفجر» الرئيس الفرنسي في أواخر 2017 عندما وضع دول «غرب البلقان» أمام خيارين: «إما أن تأخذ بالقيم الديموقراطية للاتحاد الأوروبي أو أن تدير ظهرها له وتتوجه إلى روسياوتركيا» (جريدة «داناس» البلغرادية 29/9/2017). لا لتركيا نعم لدول البلقان ذات الغالبية المسلمة مع هذا التنافس الروسي- التركي للاتحاد الأوروبي كان الرئيس رجب طيب أردوغان يستثير الجاليات التركية في دول الاتحاد الأوروبي والغالبيات المسلمة في دول «غرب البلقان» بمفرداته الجديدة حول «الصليبية الجديدة» و «الفاشية» و «النازية» ضد دول الاتحاد الأوروبي التي تنتقد انتهاكات حقوق الإنسان في تركيا، وبخاصة بعد فشل المحاولة الانقلابية في صيف 2016. وفي الوقت نفسه كان هناك في دول «غرب البلقان» من ينتقد بروكسيل على عدم التعجيل في ضم هذه الدول التي يشكل المسلمون غالبية في ثلاث منها (كوسوفو 95 في المئة وألبانيا 60 في المئة والبوسنة 51 في المئة). ويبدو أن انزعاج بروكسيل من تزايد النفوذ الروسي- التركي في دول غرب البلقان خلال 2016-2017 كان السبب الحاسم في دفعها إلى وضع إستراتيجية جديدة لتوسع جديد للاتحاد الأوروبي يضم دول غرب البلقان خلال السنوات المقبلة. وخلال وضع هذه الإستراتيجية زار أردوغان فرنسا يومي 4 و5 كانون الثاني (يناير)، وفتح موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي متبرماً من «طول الانتظار»، لكن الرئيس الفرنسي كان واضحاً حين ركز في المؤتمر الصحافي على «ضرورة الخروج من نفاق الاعتقاد بأن تقدماً طبيعياً لفتح فصول جديدة (من المفاوضات بين بروكسيل وأنقرة) هو أمر ممكن»، وعرض على أردوغان «الشراكة مع الاتحاد الأوروبي» عوضا عن «الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي». ولكي لا تتهم بروكسيل بالعداء للمسلمين رداً على ذلك كانت الإستراتيجية الجديدة لتوسع الاتحاد الأوروبي على وشك الإعلان عنها بضم دول غرب البلقان ذات الثقل المسلم مثل ألبانيا (60 في المئة) والبوسنة (51 في المئة) وكوسوفو(95 في المئة) وجهورية مقدونيا (35 في المئة). وفي الحقيقة إن تأخر هذه الدول عن الانضمام كان لأسباب داخلية (على رأسها تعاظم الفساد) وليس لأسباب تتعلق بالدين لأن المسلمين فيها أوروبيون عريقون ولا يشكلون بعددهم (حوالى سبعة ملايين في الدول الست) عبئاً على الاتحاد الأوروبي كما هو الأمر مع تركيا (80 مليوناً). الإستراتيجية الجديدة ارتبط الإعلان عن الإستراتيجية الجديدة في بروكسل في 6 الجاري عن ضم دول غرب البلقان بتصريحات تمثل التفاؤل من ناحية والالتزام من ناحية أخرى. فقد عبّرت مسؤولة العلاقات الخارجية في الاتحاد فيديريكا موغيريني عن ذلك بالقول: «إن رسالة اليوم واضحة: سنتقاسم المستقبل المشترك مع داخل الاتحاد الأوروبي» ولنجلب غرب البلقان إلى داخل الاتحاد الأوروبي خلال جيلنا على الأقل وليس في المستقبل البعيد». وفي الواقع يذكّر هذا الموقف بما ورد في «قمة سالونيك» 2003 : الالتزام وعدم التسرع بل التدرج في القبول وفق تقدم هذه الدول في الإصلاحات الباقية. ولكن مع ذلك أعطيت الأفضلية منذ الآن لدولتين (صربيا والجبل الأسود) مع ذكر موعد لانضمامها الممكن (2025) لتكونا بذلك العضوين 29 و30. ومع الأخذ في الاعتبار اندماج صربيا والجبل الأسود أكثر في اقتصاد الاتحاد الأوروبي، فإن هناك البعد السياسي أيضاً لانتزاع هذا المجال الحيوي الممتد من قلب البلقان إلى شاطئ البحر الأدرياتيكي من النفوذ الروسي/ التركي المتزايد. فمع هذا الإعلان عن قبول صربيا في الاتحاد خلال سنوات، يجب على بلغراد أن تنسق سياستها الخارجية بالتدريج مع الاتحاد الأوروبي، وهو التحدي الكبير الذي يعيقه اليمين الصربي في الشارع الذي لا يزال يطالب بالشراكة الإستراتيجية مع روسيا بدلاً من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. ويكمن التحدي الأكبر في الشرط المفروض على بلغراد ب «تطبيع» العلاقة مع كوسوفو خلال حد أقصى ينتهي في 2019. فالدستور الصربي لايزال ينصّ على أن كوسوفو «جزء لا يتجزأ من صربيا» ولا تزال خرائط صربيا في الدوائر الرسمية والمؤسسات والمدارس تضم كوسوفو، ولا تزال بلغراد تموّل التعليم والصحة والخدمات الأخرى للصرب في شمال كوسوفو ذي الغالبية الصربية الذي ترتفع فيه أعلام صربيا لا أعلام كوسوفو. ومن هنا سيكون هذا الامتحان العسير للرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش، الذي بدأ يمهد الأجواء بالدعوة إلى حوار داخلي يفضي إلى «مصالحة تاريخية» بين الصرب والألبان من دون أن يعني هذا بالضرورة اعتراف صربيا باستقلال كوسوفو. وهذا ينسجم أيضاً مع ما أعلنه مسؤول التوسع في الاتحاد الأوروبي يوهانس هان من أن الاتحاد الأوروبي لن يقبل دول غرب البلقان إلا بعد تسوية خلافاتها مع الدول المجاورة، وهذا يعني قيام صربيا بتطبيع العلاقة مع كوسوفو، وعمل جمهورية مقدونيا على حل مشكلة الاسم مع اليونان المجاور، وقيام ألبانيا بحل مشكلة حدودها البحرية مع اليونان، وقيام كوسوفو بترسيم الحدود مع الجبل الأسود. ومع حل هذه المشاكل المتواصلة منذ عقود يمكن بروكسيل أن تتفاءل باندماج غرب البلقان في الاتحاد الأوروبي لكي لا يبقى مصدراً للنزاعات والهجرات المفاجئة. أما في ما يتعلق بالدول الأخرى فيبدو أن الدور سيكون لألبانيا وجمهورية مقدونيا (بعد أن تحل مشاكلها مع اليونان حول الاسم وإجراء تعديلات دستورية وقانونية) وأخيراً البوسنة وكوسوفو. ومشكلة البوسنة تحتاج إلى جيل جديد من السياسيين (بعد أن تنضم صربيا إلى الاتحاد الأوروبي ويتبخر أمل انضمام «جمهورية الصرب» في البوسنة إلى صربيا) الذين يقبلون بالمعايير المطلوبة من بروكسيل. وفي الموازاة، سيؤدي عمل المحكمة الدولية الخاصة بجرائم الحرب في كوسوفو إلى بروز جيل جديد من السياسيين غير المتورطين في الجريمة والفساد. قد تبدو هذه الإستراتيجية الجديدة المعلنة في بروكسيل «لحظة تاريخية» و «صورة وردية» عن المستقبل، وجاءت لتتيح تخلص غرب البلقان من عبء الماضي وتزاحم تنافس القوى الكبرى عليه (انضمت إليه الصين).