رحلة السفر الى باريس مع مجموعة من زملاء المهنة التي تمت منتصف حزيران (يونيو) الماضي، حملت في طياتها عشرات المفاجآت والأوقات الجميلة التي لن تمحى من الذاكرة. اليوم الأول في باريس كان مميزاً، فهو يوم استكشاف المكان، او كما أسميناه لاحقاً «يوم التوهان»، إذ تركنا لأرجلنا حرية السير من الفندق الذي وصلنا اليه قبل ساعات الى أي اتجاه تريد، ولحسن حظنا، فإن أرجلنا كانت تسير بإيحاء من أنوفنا لتستكشف شيئاً جديداً. نصف ساعة مرت على سيرنا التائه قبل ان نكتشف وصولنا الى مهرجان شعبي أقامته مقاطعة الألزاس لعرض منتجاتها المحلية من الأطعمة والصناعات التي تنفرد بها أمام جمهور السائحين. الفرقة الموسيقية التي عزفت نغمات قروية متسارعة داخل المكان منحت المهرجان الصغير طعماً خاصاً جذبت من خلاله السياح الذين لم يفوتوا الفرصة في التقاط الصور والتمتع بأداء الفرقة. الرحلة التي تمت ضمن برنامج خاص بالخارجية الفرنسية بالتعاون مع السفارة الفرنسية في بغداد، احتوت برنامجاً متكاملاً لزيارة بعض المؤسسات والشركات الاقتصادية مثل «توتال» و «شنايدر» و «فرانس تليكوم» كما تضمنت زيارة مجموعة من وسائل الإعلام الفرنسية. متحف اللوفر والجمعية الوطنية الفرنسية كان لهما حصة غير قليلة من برنامج الزيارة. لكن زيارة الوفد العراقي للمتحف تركزت على جناح حضارة ما بين النهرين او «الميزوبوتاميا»، كما يسميها الفرنسيون، حيث بدأت بمسلة حمورابي وامتدت الى مئات الآلاف من القطع الأثرية الاخرى المختلفة الأحجام. ولم تدخر المترجمة التي رافقت الوفد جهداً في اطلاعنا على أبرز لوحات اللوفر أمثال الموناليزا ولوحة تتويج نابليون فضلاً عن التماثيل التي توزعت في أرجاء المتحف. دخول اللوفر كان يشبه الدخول الى مدينة صغيرة تختزل تاريخ الأرض والحضارات الإنسانية وتحتاج الى أيام عديدة لمعرفة خفايا ما تحتويه جدرانه من صور ولوحات وفنون أبدعتها يد الإنسان منذ آلاف السنين. الجمعية الوطنية هي الأخرى كانت مميزة ليس بمراسيمها التقليدية لاستقبال رئيسها التي توارثها الفرنسيون منذ عشرات السنين، بل بنقاشاتها الحادة والمحتدمة بين جميع الاطراف سواء كانت حكومية ام معارضة تنتمي الى اليمين ام الى اليسار. نسبة النساء في الجمعية كما أخبرونا كانت لا تزيد عن 10 في المئة، لكن فاعليتهن في صنع القرار بدت اكبر بكثير من عددهن. «على نقيض برلماننا» فكرت في نفسي، حيث خصص للنساء نسبة 25 في المئة من المقاعد فيما لا يتعدى عدد الفاعلات منهن في العمل 5 في المئة في اعلى التقديرات. التقليد اللافت للانتباه ان جلسات الجمعية الوطنية كانت مفتوحة امام الجمهور، إذ تزاحمت أعداد كبيرة بها من النساء والرجال والاطفال لحضور الجلسة والاطلاع على ما يجري فيها باهتمام بالغ، عكس نوعاً خاصاً من العلاقة بين السياسة والفرنسيين. الاندماج الكبير مع ما دار في الجلسة من حوارات ومناقشات لم يمنع ذهني من الشرود قليلاً باتجاه البرلمان العراقي، حيث تنقل الجلسات عبر شاشات التلفاز بعد التسجيل، ولا يسمح للصحافيين الذين يدخلون البرلمان بالدخول الى المكان ما يدفعهم الى تحين الفرص لاقتناص نائب او اثنين اثناء الاستراحات الفاصلة بين ساعات الجلسة لأخذ التصريحات. في تلك اللحظة راودت مخيلتي امنية خبيثة بعض الشيء بأن اتخيل سيناريو يسمح فيه للعراقيين العاديين بالاطلاع على ما يدور في برلمانهم بشكل مباشر، تماماً كما حدث في الجمعية الوطنية الفرنسية. المباني التاريخية التي ترسم وجه باريس، والتي زاد عمر الكثير منها عن أربعة قرون يولد شعوراً عميقاً بأنها مدينة لا تشيخ ولا تهرم، بل تحتضن الماضي بأذرع مفتوحة. مر الوقت بسرعة في باريس، فجاء يوم المغادرة قبل أوانه، واختتم بحفلة موسيقية أقامتها فرقة (فيفالدي) الايطالية في قلعة فرساي خارج باريس. الفرقة التي عزفت الفصول الاربعة لانطونيو فيفالدي، حلّقت بجمهورها بعيداً من المقاعد التي جلس عليها في بداية الحفلة، فالأداء المميز في العزف الذي استمر أكثر من ساعة واستخدام بعض انواع الديكور، ولَّدا إحساساً لدى الحاضرين بأنهم يعيشون خارج هذا العالم ويحلقون باتجاه قرون مضت. العزف الساحر للفرقة نقل الحاضرين بين الجبال والمروج الخضراء، وأشعرهم ببرد الشتاء ودفء الصيف معاً، مثلما ساق اليهم نسائم عطر زهور الربيع، ما ولد اندماجاً عميقاً مع الموسيقى جعل الكثيرين لا يغادرون مقاعدهم حتى بعد انتهاء العزف. الزخم الكبير الذي احتواه البرنامج في زيارة المؤسسات الحكومية ووسائل الاعلام والشركات الفرنسية الرائدة في مجال الاقتصاد، لم يمنع الصحافيين العراقيين من اقتناص بعض اللحظات لزيارة معالم باريس ورموزها السياحية، مثل برج ايفل وكاتدرائية نوتردام، وقوس النصر المطل على جادة الشانزلزيه، فضلاً عن الحي اللاتيني ومواقع اخرى حملت نكهة خاصة استوطنت في الذاكرة.