إسماعيل غزالي روائي وقاص مغربي، كتاباته تؤرخ للأوجاع الإنسانية، وهي مشبعة بالفنتازيا والغرائبية التي أضحت على مستوى السّرد والحياة المعيشة، طيفاً من ألوان عالمنا المألوف المشحون بالتوتر والمفارقات. وغزالي كاتب مولع بالتجريب والمغامرة والبحث في الأشكال الجديدة للحكاية وهندستها بطريقة لا مألوفة. فضلاً عن المنحى السوداوي الغامض (التحرّي البوليسي) الذي تشتهر به مجمل عوالمه التخييلية. قال عنه الكاتب أحمد بوزفور إنه يشبه فرناندو بيسوا على مستوى الأنداد في الكتابة، وحصر تعدّد الكاتب في اثنين يتبادلان الأدوار في لعبة كتابته هما: ديونيزوس وأبولون. من أهم إصداراته في القصة القصيرة: «بستان الغزال المرقط» الذي يضم أربع مجموعات: «عسل اللقالق - لعبة مفترق الطرق - منامات شجرة الفايكنغ - الحديقة اليابانية»، ومجموعة «غراب، غربان، غرابيب». وفي الرواية: «موسم صيد الزنجور» التي وصلت إلى القائمة الطويلة لجائزة البوكر العربية عام 2014، و «النهر يعض على ذيله» و «عزلة الثلج». هنا حوار معه: روايتك «موسم صيد الزنجور» مثيرة الجدال، بما أن أحداثها تتسم بالغرائبية، فهل تأثرت في كتابتها بالواقعية السحرية اللاتينية أم بعوالم ألف ليلة وليلة؟ - الغرابة في كتابتي آتية من الأغوار المفزعة في داخلي. لها علاقة حميمة بطفولتي القوطية أولاً. وعلى نحو مضاعف هي ثمرة نسق المصادفات العجيبة التي تحفل بها حياتي قاطبة، ثانياً. النزوع الفانتازي ليس حكراً على جغرافيا ثقافية دون أخرى، والغرائبية وُجِدتْ قبل الواقعية السحرية الأميركو - لاتينية بكثير... قصة الفانتازيا هي قصة إنسانية نشأت مع نشوء الحياة الغامضة، مع نشوء الوجود الغريب، ولازمت وعي الإنسان منذ البدء وهو يتساءل في ذهول صاعق، واندهاش مفزع عن معنى وجوده، وعن معنى الكون المبهم والمحيّر على نحو معجز وملغز. هكذا، وصلتنا النصوص الأولى منذ 5000 سنة، مع ألواح السّومريين وحكايات تفسيرهم الخلق والإنسان والعالم، وهي الحكايات التي تحوّلت وأخذت أشكالاً أخرى ضمن مآلات جديدة مع الآشوريين والبابليّين والكنعانيّين والفينيقيّين والفراعنة واليونانيّين والرّومان... وقس على ذلك ما تمّ تحويره من طرف تخييل النصوص الدينية... لا يمكن صرف النظر عن انتمائنا البكر إلى تراث إنساني كهذا من دون انفصال عن منظومة تخييله الكونية، سواء هذه التي تستند إلى أقرب تاريخ عرفناه مع السّومريين، أو تلك الأبعد التي تستند وفق رؤية فيزيائية ورياضية إلى ما يسمّى بحكاية الانفجار العظيم، وهي حكاية فانتازية بامتياز، على رغم قيمة فرضيتها العلمية. هذا فضلاً عن الانتماء الحميم إلى تراث محلّي وجذري فانتازي بامتياز، ويكفي أن أذكر أولاً: كتاب «الحمار الذهبي»، بالنظر إلى أن كاتبه من أصول أمازيغية، شمال - أفريقية، وهو لوكيوس أبوليوس. هذا النص السّحري، الذي يُعدّ من بواكير النّصوص الفانتازية في فنّ السّرد، تتأكّد جذرية شجرة نسابة نصوص كبرى معاصرة إلى مداره الجمالي والتخييلي. وثانياً: كتاب ألف ليلة وليلة الذي شكّل حجراً صلداً استندت إليه سرود كثيرة للتخييل السّحري والغرائبي عالمياً قبل إدغار آلن بو، وبورخيس وبعدهما. وزد على ذلك الطّروس العجائبية الهائلة المهملة في هذا التراث العربي والأفريقي والمتوسّطي، من مجلّدات في تخييل الوحيش والبلدان، ورحلات في غرائب الأمصار، ومؤلّفات ورسائل ذات خيال مفرط في ميثولوجيا التاريخ. بالتأكيد تُمْتِعني نصوص فانتازية ليست خاصة بأميركا اللاتينية وحدها وإنما هناك تجارب أخرى كالتّجربة الإيطالية والأميركية واليابانية على سبيل المثل لا الحصر... أما إذا كان هناك من نصّ له أثرٌ حميم وعظيم في ما يخصّ ذائقتي الفانتازية، فأظن أنّ «الحمار الذهبي» للكاتب الأمازيغي الرّوماني لوكيوس أبوليوس هو الأقرب إليّ. هل تعتقد أن الرواية العجائبية تعتبر مدخلاً لفهم العقلية المغربية؟ وكيف السبيل إلى تحرر المرء من الأوهام؟ - الرواية هي عمل جمالي، ولكي تكون الرواية رواية لا تحتاج إلى أن تكون عجائبية أو واقعية، تاريخية أو سير ذاتية، عليها أن تكون رواية وفقط. فهْمُ العقلية المغربية ممكنٌ بالرّواية وإن كان ليس هذا هو الهدف وحده من كتابة الرواية أو قراءتها. الغرائبية مدخلٌ مضاعف لفهم واقعنا الإنساني المفخّخ بالغموض. لقد نسينا أننا نعيش في عالم مدهش على نحو مرعب، إذ تعوّدنا في شكل هجين التآلف مع اليومي. الرواية كفن، عموماً، لا تطمئن إلى اليومي والواقع كشيء جاهز ومألوف ونمطي، الرواية تتخطّى هذه الحدود المرسومة في اتجاه الغريب واللامألوف والمفارق الذي يتوارى خلف منظومة العادي. العجائبي والنزعة العقلية لا يتفقان غالباً عند قراء ومتلقين كثر... ماذا تقول؟ - الغرابة هي من صُلْب الواقع، وليست شيئاً نقيضاً أو منفصلاً تماماً. لهذا، فالنّصوص الفانتازية يمكن اعتبارها واقعية على نحو مضاعف. الفن عموماً والرواية خصوصاً معنيّةٌ بما يناقض النّزعة العقلية، لأنها تُيمّم بوجهها شطر هذا المجهول، اللامحدود واللانهائي الكامن وراء حدود العقلانية، هذه التي لا تستطيع الوصول إلى كنوزها الرّاسبة في القيعان المظلمة، لأنها – العقلانية – كجزء هي إحداثية من إحداثيات الكل الأعظم والأعمق، وليست الكلّ مطلقاً. في الرواية يتحد الشيء وضده، وتجتمع الأشباه والنظائر، وتلتقي الأضداد في وحدة جامعة، فهل قصدت التقريب بين ضفاف الثقافات وخلق جسور من التواصل وإتاحة الفرصة للتعارف بين البشر؟ - الخلاسية في الرواية تتماهى مع التعدّد العرقي والثقافي مغربياً. هذا المغرب المتعدّد أمازيغياً وعربياً وأفريقياً ومتوسطياً تشتغل عليه الرواية من منطلق جمالي صرف. أما منحى الأضداد في الرواية فيتناغم مع هندستها الداخلية أيضاً وليس يتوقف عند حوار الضفاف فقط. تمزج حوادث الرواية بين الماضي والحاضر، فهل قصدت طرح أسئلة الذات من جديد؟ - لا نكتب إلا استيهامات ذواتنا مهما بدت أعمالنا السردية مفرطة في التخييل. أظن أن الرواية حاولت النظر إلى الذات المغربية المنسية، من خلال وجه آخر، قصي، ومأسوي من وجوهها الخلاسية، التخومية، الهامشية في شكل فادح. وأما لعبة الزمن بالنظر إلى تعاقب الحوادث أو تأرجحها بين ماض سحيق، وحاضر لاذع، فهي – اللعبة - ذات منحى دائري ومتماوج وفق تماوج ودائرية البحيرة كشكل وكتقنية وكمجاز. الأسرة الغجرية أنجبت فتاة البحيرة «شامة»؛ والدة عازف الساكسفون المدفونة إلى جوار قبر والدتها على الهضبة الشمالية من البحيرة... كيف تنظر إلى وضعية الغجر في الثقافة العربية باعتبارها فئة مهمشة؟ - نمط الترحال هو أسلوب من أساليب الحياة الذي عشتُ معناه على نحو وجودي في شكل من الأشكال في طفولتي. لا يزال هذا النمط الغجري يُمارس في الأطلس المتوسط والكثير من هوامش المغرب والبلدان العربية والعالم. بقدر ما التفتت الرواية بقوة إلى القسوة أو فداحة مأساة الغجر (الرُّحل)، التفتتْ أيضاً إلى أسلوب الجمال الذي يضمره عدم الاستقرار كعلامة فلسفية أو كمجاز. «خرير الأحلام» و «صرير الكوابيس»؛ روايتان قصيرتان لك... لماذا الولع بالمتناقضات؟ وهل هذه نظرة صوفية للوجود؟ - في المجرى الشرس للتناقضات يُزْبِدُ المعنى. الروايتان يتنازعهما منحى سوداوي بالمعنى البوليسي، وهذا لا يعني أنهما روايتان بوليسيتان بالضرورة. نمط الغموض والتحري فيهما كتقنية أو كموضوع (الوقائع الغريبة) يغذيان معاً اشتباكات المتاهة التخييلية المؤسسة على لغة بصرية استيهامية. ليست نظرة صوفية بمقدار ما هي نظرة قوطية، كابوسية إلى الوجود بالنظر إلى أننا نعيش داخل عالم سوداوي، في حياة مفزعة، في كون مرعب. أصدرت ست مجموعات قصصية، فهل كانت القصة عتبة لدخول عالم الرواية؟ - إطلاقاً، لم أكتب القصة القصيرة على سبيل التمرين، أو عن سابق نية، كي أعبر إلى كتابة الرواية. فبدايتي كانت شبه روائية، على عكس ما يروّج له بعض النّقد خطأً بدعوى أنّني أتيتُ إلى (شفق) كتابة الرواية من (غلس) كتابة القصّة القصيرة. أول نصّ صدر لي في حماسة يفاعتي كطالب جامعي كان روائياً بعنوان «التمتمة» عام 2000. ولعي بالقصة القصيرة في ما بعد، هو محض ولع صِرْف، كمغامرة مستقلة بذاتها، وغوايتها محفوفة بخطورة. لا أرتضي من وراء كتابتها إلا متعتها الخالصة، ذات الغرابة المثيرة. (هؤلاء الكتاب الذين يرون في القصة القصيرة تمريناً للتأهب نزوحاً إلى الرواية، هم في الحقيقة يكتبون خارجها، لم ولن يعرفوا الطريق السري إلى حقيقتها المخادعة أبداً، وأثرهم في ذاكرتها المنفلتة لن يكون إلا معدوماً). هل تعتقد أن الرواية اليوم أقرب إلى القصة الممطوطة منها إلى الرواية؟ وهل زمن الروايات الطويلة انتهى؟ - الرواية تتجدّد بحسب مغامرة أو تحوّلات كتابتها النوعية وتجريب أشكالها المجازفة وطرائق حكيها اللامألوفة. الرواية لا تتحقق قيمتها أو معناها بالنظر إلى حجمها القصير أو المتوسط أو الطويل (الضخم). هذا النّظر المحصور في كمّها، والذي يروّج له الآن نقاش بليد مؤسس على مبدأ المفاضلة بين قصرها وطولها، هو محض مزايدات بلا قيمة ولا معنى ويكاد يكون مفتعلاً جداً. كيف ترى موقع الرواية المغربية على خريطة الرواية العربية؟ - الرواية المغربية دائماً راهنَت على نوعيتها، على حساب كميتها. متخيل الرواية المغربية مختلف ومنجزها الجمالي المغاير راسخٌ ورصينٌ، طليعيٌّ ومتحوّلٌ، مغامرٌ ومتألّقٌ على نحو لافت في خريطة الرواية العربية. لغتك العربية سليمة ورصينة... كيف ترى الصراع بين العربية والفرنسية في المغرب؟ - ازدواجية العربية والفرنسية في المغرب تحوّلت إلى واقع دامغ منذ عقود، وهي ملمح من ملامح الخلاسية الطافية على نحو رسمي التي تكوّن الذات المتعدّدة للكائن المغربي، وأمّا الذي يتكوّن هذه الذات المتشعّبة على نحو غير رسميّ، فيتبطّنُها غوراً، فأغواراً.